سكتَ أهالي العسكريين عن الحقّ لا ليتوهَّم أهلُ الباطل أنّهم على حقّ، وفضّلوا الابتعاد عن الكاميرات معتصمين بالصمت لا لأنّهم لا يملكون ما يقولونه... بل لأنّ الجمرة «ما بتِحرق إلّا مطرحها». فمن لم يشعر بألمهم طوال 3 سنوات و26 يوماً، ولم يسمع معاناتهم في ذروة مناشداتهم فلا قيمة بعد اليوم للكلام. «الغالي راح»، تصرخ إحدى الأمّهات الثكالى، وقد أعياها الدمع أمام المستشفى العسكري أمس.
لَملمَ الليلُ نجومه فيما ليلُ أهالي العسكريين مستمرّ منذ سماعِهم خبرَ العثور على رفات ثمانية أشخاص في منطقة وادي الدب ينتعلون «رينجرات». إتّشَحت النسوة بالسواد، وبعض العائلات بدأ بتقبّل التعازي، فيما قلّةٌ قليلة تُعوّل على أعجوبةٍ قد تتكشّف بعد صدور نتائج فحوص الحمض النووي، وتُظهر بأنّ بعض الجثامين قد لا تكون للعسكريين.
اليوم الأوّل
من «طلوع الروح» أمضى الأهالي اليوم الأوّل على سماعهم الحقيقة المرّة، فتوجّهوا منذ الصباح تباعاً إلى المستشفى العسكري لإجراء فحوص الحمض النووي وصور للأسنان. وقد نُقِلت لاحقاً الفحوص إلى مختبر الجامعة اليسوعية لتتمّ مقارنتُها بعينات الرفات، ومن المرجّح أن تأخذ النتائج نحو أسبوعين نظراً إلى تحلّلِ الجثث والرفات.
لا يُنكر الأهالي أنّهم يتعلّقون بأيّ بصيص أمل قد يُظهر أنّ أبناءَهم أحياء، ولكن سرعان ما تَغدرهم دموعهم ويتنهّدون من أعماق أنفسهم: «وين يا حسرة، «داعش» ما بتِرحم».
لذا رهانُهم ضعيف على ما يمكن أن تُظهره النتائج. في هذا السياق، يتحدّث حسين يوسف، والد الشهيد محمد يوسف، بغصّةٍ لـ»الجمهورية»: «عَتبنا كبير أنّ العسكريين تحت التراب فيما الدواعش يُغادرون بعتادِهم وعديدهم، قلبنا ما عاد يحتمّل أكثر، صبَرنا سنوات طويلة واثقين بجهود دولِتنا إلى أقصى الحدود، والنتيجة؟ أكثر من مؤلمة، إنّها كارثة وطنية».
ويضيف: «منذ الصباح الباكر نتابع مسألة إجراء فحوص الـDNA، فقد طلبَت منّا القيادة العسكرية إجراءَ العيّنات بنفسها لتُطابقَها مع فحوص الجثامين».
أمّا بالنسبة إلى الخطوات المرتقبة، فيقول: «تعِبنا بما فيه الكفاية، لذا قرّرتُ ومعظم العائلات مغادرةَ الخيمة إلى منازلنا، فقد خارَت قوانا وما عدنا نملك أيَّ طاقة على الوقوف. سننتظر كلَّ ما ستقوله قيادة الجيش واللواء عبّاس ابراهيم لأنّنا لم نفقد الأمل»، مشيراً إلى أنه سيبقى «يتابع عبر الهاتف المستجدّات، وبين الفنية والأخرى يطلّ إلى ساحة رياض الصلح».
وداع جماعيّ
في موازاة ذلك، أجمعَ معظم الأهالي الذين تحدّثت إليهم «الجمهورية» على رغبتهم في إقامة تكريم جماعي لأبنائهم الشهداء وصلاةٍ مشتركة عن أرواحهم، في حال تبيَّنَ أنّ نتائج الفحوص متطابقة للعسكريين، مؤكّدين «أنّ القضية واحدة والجرح مشترَك».
ورغم أنّ نتائج الفحوص تستلزم وقتاً، إلّا أنّ بعض النشطاء عمدوا إلى تناقُلِ صور جثامين، ممّا أثارَ غضبَ الأهالي، فعبَّر يوسف عن سخطه في حديثه قائلاً: «نشَر البعض صوَراً مرجّحة لجثث العسكريين، ومن المعيب نشرُ صور الجثامين، بصرفِ النظر عن هوية أصحابها، المسألة إنسانية بامتياز ولا بدّ من مراعاة مشاعر الأهالي».
من جهته، انتقد المحامي خليل شدّاد باسمِ أهالي العسكريين «وجود طفلٍ في صوَر الرّفات التي تمَّ تداولها»، لافتاً إلى أنّ «هناك أملاً بألّا تكون كلّ الجثث للعسكريين»، مشيراً إلى وجود «قطبة مخفيّة لم تُطلعنا عليها السلطات، خصوصاً أنّ معلوماتنا تفيد بأنّ العسكريين المخطوفين لم يكونوا كلّهم معاً».
إضاءة الشموع
بعد الظهر، وقبل أن يغادر الأهالي خيمتَهم، عَمد بعض المواطنين المتضامنين مع وجعِهم إلى زيارتهم، بعضُهم معزّياً، والبعض الآخر معرِباً عن حزنه الشديد. فيما أنظار يوسف متعطّشة إلى ملقى حفيدِه في بلدته مدوخا: «غادر إبني محمد إلى الجبهة ووحيدُه يبلغ من العمر شهرين، والآن بات يتيماً، فمسؤوليتي كبيرة، حفيدي نقطة قوّتي الوحيدة وسببُ صمودي بعد اليوم».
وليلاً، احتضَنت ساحة رياض الصلح وقفةً تضامنية مع أهالي العسكريين الذين كانوا قد اعتذروا سَلفاً عن تعذّرِ مشاركتِهم، شاكرين دعمَ المواطنين لهم. وقال حسين يوسف: «ألله يرحم شهداء الجيش، قلوبنا معكن واعذرونا يمكن تعِبنا شوي، بس ما رح نيأس»، مشيراً إلى أنه لا يُحمّل مسؤوليةً لأحد «انشالله بتِخلص القصّة ومنحكي بكِل شي متل ما لازم ينحكى».
وشارَك بعض المواطنين في إضاءة الشموع أمام خيمة الأهالي، فأناروا عبارة «شهداء بحجم الوطن» ثمّ أنشدوا النشيد الوطني. وقد بدا لافتاً محاولة بعض الشخصيات لفتَ الانتباهِ وجذبَ الكاميرات إليها بإلقاء خطابات وتصاريح أثارت موجة ردودِ فعلٍ، على اعتبار «هلّق مش وقتها».
في هذا السياق، أعرَب مصدر من أهالي العسكريين عن تقديرهم لهذه الوقفة، وفي الوقت عينه لم يُخفِ خشيته «من مساعي البعض لاستغلال القضية لمآرب سياسية وحسابات خاصة»، فسأل: «وين كانوا كلّن قبل؟ هلّق فاقوا علينا؟».