تطلق بين الحين والآخر مواقف من هنا وهناك تتناول قضية اللاجئين الفلسطينيين من زوايا مختلفة، منها ما يدعو إلى عودتهم لوطنهم المحتل فلسطين، وأخرى تسعى إلى استهداف قضيتهم في محاولة لشطبها، لأنها معيق أساسي لما يخطط للمنطقة.
وعلى خط مواز، يعمل الاحتلال الإسرائيلي على "ترانسفير" لمن بقي من فلسطينيين داخل مدنهم وقراهم في الأراضي المحتلة منذ العام 1948، باعتبارهم "قنبلة ديموغرافية" تُهدّد وجوده.
ويتكامل المشهد من خلال إطلاق الكثير من السياسيين مواقف لشد العصب المذهبي والطائفي، خاصة مع اقتراب موسم الانتخابات النيابية.
لكن العلامة الفارقة في هذا المشهد، هو البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي، الذي يتعمد التطرق بشكل حاد إلى قضية اللاجئين الفلسطينيين، والإيحاء الدائم إلى النية بتوطينهم، أو إلى أنهم يشكلون خطراً ديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وأمنياً على لبنان، وهي المواقف التي أطلقها مؤخراً خلال جولاته الحالية في الولايات المتحدة الأميركية.
وحيث كنا قد وجهنا رسالة سابقة إلى الكاردينال الراعي حول موقفه من الفلسطينيين نشرت في جريدة "اللـواء" الاثنين (13 آذار 2017)، فإننا نوجه مجدداً رسالة إلى راعي الأبرشية المارونية..
صاحب الغبطة،
كنا نتمنى أن يكون كلامك من باب الإشارة إلى الظلم اللاحق باللاجئين الفلسطينيين جرّاء الاحتلال الإسرائيلي لوطنهم، ومنهم من اضطر إلى اللجوء لدول الطوق المحيطة بفلسطين، وبينها لبنان، والدعوة للعمل على إنصافهم إلى حين عودتهم التي يترقبونها بشغف كبير، وقدموا من أجل ذلك الملايين من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين والمبعدين اللاجئين في العديد من الدول العربية...
وإلى حين عودتهم، فهم ضيوف في لبنان يحترمون قوانينه، رغم أنهم لا يتمتعون بالحقوق المعيشية والاجتماعية والمدنية، ومحرومون من حق تملك ولو بيتاً يأوون فيه.
والفلسطينيون لا يشكلون عبئاً على لبنان لا سياسياً ولا اقتصادياً، لأن تحويلات الفلسطينيين من الخارج إلى عائلاتهم في لبنان تتجاوز 2 مليار دولار أميركي - وفقاً لما نقل عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة - أي أنهم يساهمون في الاقتصاد، ولا يحولون أموال لبنان إلى الخارج كما هي حال جاليات أخرى من عمال وغيرهم، ولا داعي للتذكير ماذا فعل خروج الأموال الفلسطينية من لبنان بالليرة اللبنانية وبالاقتصاد الوطني بعد العام 1982..
نيافة الكاردينال،
على الرغم من الكلام المعسول الذي يقوله الكثير من السياسيين في لبنان لقيادات فلسطينية ودولية، خلال الاجتماعات المغلقة، بالوقوف إلى جانب مطالب اللاجئين الفلسطينيين المحقة، والدعوة إلى منحهم حقوقهم، لأنهم يلتزمون بالواجبات، إلا أن ذلك يكون مغايراً تحت قبة البرلمان، لحسابات طائفية وانتخابية، ومصالح متعددة تؤدي إلى مزيد من التضييق على الفلسطينيين.
وليس جديداً تناول قضية الوجود الفلسطيني في لبنان، لكن أن يصدر مثل هذا الكلام الحاد عن رأس الكنيسة المارونية في لبنان، فهو المستغرب، لأن المفترض به نصرة المظلوم، وأخذ حقه من الظالم، وغبطتكم لستم بحاجة إلى أصوات لتجير في صناديق الاقتراع المحلية، بل بحاجة إلى دعوات وأعمال خير وتقوى وحسنات تتراكم في سجل أعمالكم يوم القيامة، يوم لا ينفع إلا العمل الصالح.
وحبذا لو تعملون في جولاتكم مع أصحاب القرار، من أجل أن يضغط المجتمع الدولي على الكيان الإسرائيلي الغاصب، لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية وإعادة اللاجئين الفلسطينيين، تنفيذاً للقرار الدولي 194، الذي ينص على "حق عودة اللاجئين إلى وطنهم وتقرير المصير"، وهو القرار الذي مضى عليه 69 عاماً، وصادر عن الجمعية العامة لـ"الأمم المتحدة" (11 كانون الأوّل 1948)، ورب قائل يقول أن كلامك هو للضغط على المجتمع الدولي لحل القضية الفلسطينية، ولكننا نقول: "هذا صحيح، ولكن ليس بالتجريح الإنساني والمس بمشاعر البائسين، وربما بالتحريض عليهم في مرحلة شديدة الاحتقان"..
صاحب الغبطة،
الفلسطينيون تواقون للعودة إلى مهد الرسالات السماوية، ويعيشون بألم وحسرة في مخيمات اللجوء، ولو قدر لغبطتكم أن تعيشوا يوماً واحداً، أو توفدوا من يمثلكم لمعايشة الواقع عن كثب ليوم واحد في مخيمات العودة، لتيقنتم حجم المعاناة والظلم، لأعزاء كانوا في وطنهم، واقتلعوا منه بمؤامرة دولية مضى عليها 69 عاماً، تنفيذاً لـ"وعد بلفور" المشؤوم (2 تشرين الثاني 1917)، يوم منح من لا يملك (بريطانيا) إلى من لا يستحق (اليهود) وطناً في أرض فلسطين، ونحن نطوي مئويته الأولى.
وبعدما انتهى مفعول اتفاق "سايكس - بيكو" بمرور 100 عام على توقيعه بين بريطانيا وفرنسا 1916، حيث نعيش إعادة تقسيم المقسم من المنطقة.
واللاجئون في المخيمات أحرقوا الخيام رفضاً للتوطين، ولو وافقوا عليه، لما استطاع أحد منع المخطط من التنفيذ، بل إن ما جرى في لبنان من حرب عبثية، لأن الفلسطينيين تمسكوا بحق العودة، ورفضوا التوطين والمشاريع البديلة، فدفعوا ضريبة ذلك.
فقد اعترف في "قمة الجزائر" (26 تشرين الثاني 1973) بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وكذلك في "القمة العربية" التي عقدت في الرباط بالمغرب (26 تشرين الثاني 1974)، واجتماع "المجلس الوطني الفلسطيني" في القاهرة الذي أقرّ النقاط العشر (البرنامج المرحلي) (1-8 حزيران 1974).
وصولاً إلى إلقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كلمته من منبر "الأمم المتحدة" في نيويورك، كأول قائد ثورة يلقي خطاباً من على منبر أكبر مؤسسة دولية، وينتزع اعترافاً بمقعد لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" (13 تشرين الثاني 1974)، عندها بدأ تنفيذ المؤامرة ضد لبنان، لضرب "منظمة التحرير الفلسطينية" والقضاء عليها، فكان اغتيال المناضل معروف سعد في صيدا (26 شباط 1975)، ثم الاعتداء على بوسطة عين الرمانة (13 نيسان 1975)، ما يُؤكّد أن الاغتيال والاعتداء لم يكونا بأيدٍ فلسطينية، بل في الجريمتين كان الهدف زج الفلسطينيين في آتون الصراع، فدفع اللبناني الضريبة كما الفلسطيني.
ثم كان الغزو الإسرائيلي للبنان (6 حزيران 1982)، والذي أدى إلى انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية (23 آب 1982) قبل اغتياله (14 أيلول 1982)، وما تلا ذلك من ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا (16 أيلول 1982)، والتي أسفرت عن سقوط حوالى 3500 شهيد لبناني وفلسطيني من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين العزل، في صورة مشابهة لما ارتكبته "عصابات الهاغانا" الصهيونية من مجازر قبل نكبة فلسطين في العام 1948، فضلاً عن تصفيات وخطف ما زالت عائلاتهم تنتظر أبناءها المفقودين، حتى ولو رفاتهم.
صاحب النيافة،
الفلسطينيون يترقبون العودة إلى وطنهم، ويبحثون عن ذلك بشتى السبل: أحياء، أسرى، معتقلين، شهداء ورفات، ليس مهماً، المهم أن يكونوا في أرض الرباط.
والعائلات الفلسطينية اللاجئة إلى لبنان، تطرق كل الأبواب والسبل لركوب عباب البحر، وهي تعلم أنها قد تكون عُرضة للغرق أو ضحية شبكات التهريب والعصابات، لكن يبقى لديها بصيص أمل بأن ترسو هذه المراكب على شواطئ آمنة، من أجل الإقامة بأمن، والمعاملة كبشر، ومحطة من أجل العودة إلى أرض الوطن، عبر جواز سفر أجنبي، وهو ما فعله الكثيرون، مؤكدين أنهم مهما حملوا من جنسيات وتحدثوا بلغات، فلن يثنيهم ذلك عن وطنهم، بل إن كل ما يقومون به هو من أجل العودة إلى وطنهم، الذي تتساوى فيه حقوق المواطنة مع الواجبات، ولا تحرم الأم من منح الجنسية لمولودها، ولا تسعى المرأة إلى البحث عمن يمنحها حق "الكوتا"، فهي محفوظة 25% في مختلف الوظائف والمجلس التشريعي، وتتشارك مع الرجل في النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، فيزج بها مع زوجها أو ابنها أو والدها أو والدتها أو أشقائها، وتؤسر طفولتها، وقد تلد داخل زنازين الاحتلال، فهي رفيقة النضال، وهي على الرغم من كل الظروف والممارسات التعسفية الصهيونية، تتمسك بسلاح العلم، فتبدع وتحقق المراكز المرموقة.
صاحب الغبطة،
هل تعلمون أن السفارات الأجنبية تحرض الفلسطينيين ضد لبنان من أجل تنفيذ اعتصامات ضد عدم منحهم الحقوق المدنية، والتمييز في المعاملة وفقاً للقوانين والأعراف الدولية، وهو ما يصنف في خانة "التمييز العنصري"، الذي حدّد بأنه "تمييز بسبب العرق، أو الجنس، أو اللغة أو الدين، أو الأصل القومي"، لأن جميع البشر متساوون أمام القضاء، وهناك حقوق كما واجبات، واللاجئون يجب أن يتمتعوا بذلك باستثناء المواطنة.
والهدف من هذا التحريض ضد لبنان بأنه يمارس "التمييز العنصري"، حتى يكون ذلك ذريعة لوقف المساعدات من الدول والمنظمات المانحة، وتحقيق المخطط الإسرائيلي بفتنة داخلية، وتحريك بعض المشبوهين في الحراك المدني، الذين كشفت تحقيقات الأمن العام مع أفراد "شبكة عباس سلامة" المتعاملة مع "الموساد" الإسرائيلي، أن اختراق مجموعات الحراك المدني لتأليب الرأي العام، كان من ضمن أهدافهم.
نيافة الكاردينال،
عندما يتقدّم اللاجئ الفلسطيني في العمر يكون قد سرد للأبناء والأحفاد ذكريات طفولته، وشبابه في قريته ومسقط رأسه في فلسطين، التي يحفظ معالمها، ورسخت في مخيلته، على الرغم السنوات القليلة التي عاش وترعرع فيها، لذلك فشلت نظرية دايفيد بن غوريون، عندما قال: "غداً الكبار يموتون والصغار ينسون»، وإذا بهؤلاء الصغار، وبعد 69 عاماً يحولون الأحلام إلى رسومات، ويحفظون عن ظهر قلب أسماء المدن والبلدات والقرى والمجازر والبطولات، على الرغم من أنهم لم يولدوا فيها، ومحاولات وكالة "الأونروا" ومؤسسات تربوية محو ذلك من الجغرافيا.
وقبل أن يرحل يوصي الأبناء بنقل الرفات، وما تبقى من عظام منها، لدفنها في مسقط رأسه، بين الزيتون والدالية والرمانة والصبير، في أرض القداسة تمتاز بأنها باب السماء وأرض المحشر والمنشر، ومسقط رأس السيد المسيح (ع).
صاحب الغبطة،
هل نسيتم يوم زيارة فلسطين كيف استقبلكم أهلها، حيث هناك لا تعرف طائفة الإنسان، لأن الأذان يرفع في الكنائس، والمسيحي يصلي مع المسلم في المسجد الأقصى، وهكذا كانت يوم احتضنت كنيسة المهد، المسلم والمسيحي متصدين للمحتل الإسرائيلي، ويوم حاصر الاحتلال، الأقصى ببوابات الكترونية، اختبرت معدن الأوفياء لفلسطين.
في بيت لحم لا يعرف المسلم من المسيحي، حيث المدينة المقدسة التي أصبحت الكثير من معالمها تحمل اسمي الراحلين الكبيرين حسيب الصباغ وسعيد خوري، لأن المساعدة إلى كنيسة المهد في بيت لحم لا تختلف عن مسجد عمر بن الخطاب الذي يبعد عنها عشرات الأمتار.
وكذلك في القدس، حيث المسجد الأقصى تجاوره كنيسة القيامة، التي يقوم صباح كل يوم مندوب من عائلة جودة بالتوجه إلى الكنيسة وتسليم مفاتيحها إلى مندوب من عائلة نسيبة ليقوم بفتح الكنيسة، ثم اغلاقها مساءً، قبل أن يعود ممثّل عائلة جودة لتسلمها، وكلاً العائلتين مسلمتان، حيث ما زالت "العهدة العمرية" سارية المفعول.
هذه هي فلسطين، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، الشاهدة على مآثر الرسل، إسراء ومعراج الرسول محمّد (صلى الله عليه وسلم) وولادة السيّد المسيح (ع) وآلامه في مواجهة بني إسرائيل.
وهي التي أدرك معانيها رأس الكنيسة في العالم البابا فرنسيس، وعايش مظلومية الفلسطينيين، وأيقن أهمية أرض الرسالات السماوية، فوقع اتفاقاً بين الفاتيكان وفلسطين (15 أيّار 2015) غير آبه بالتهديدات الصهيونية، بعد الزيارة التاريخية التي قام بها قداسته إلى فلسطين (25 أيّار 2014) وكنتم برفقته، واطلعتم عن كثب على واقع حالة الفلسطينيين وصمودهم ولهفتهم لعودة اللاجئين داخل الوطن وفي الشتات إلى وطنهم.
كما كان هاجسكم قضية العملاء مع الإحتلال الإسرائيلي، الذين فروا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد الاندحار عن جنوب لبنان (25 أيّار 2000)، وتعملون على إصدار قانون عفو عنهم، على الرغم من أن العملاء لا ينتمون إلى لبنان وطوائفه ومذاهبه، فمذهب هؤلاء هو "العمالة"!
غبطة البطريرك،
يحفظ التاريخ أسماء كثر ناضلوا من أجل قضية فلسطين وحقوق أبنائها، فمنهم من رحل أو من لا يزال يسير على الدرب، دون خوف أو وجل، وفي طليعة هؤلاء النائب البطريركي السابق في القدس المطران الفدائي هيلاديون كبوجي الذي نحتفل بعد حوالى الشهرين بذكرى رحيله الأولى، ورئيس أساقفة سبطية للروم الأرثوذكس المطران عطا الله حنا، الصامد رغم مضايقات الإحتلال ضده، فاحفظ نيافتكم مكاناً بين المناضلين عن المظلومين.
نيافة الكاردينال،
في التعاليم السماوية، هناك توبة وغفران، والمصلون يعترفون لكم عن خطايا ارتكبوها، معلنين التوبة، طالبين الدعاء لهم بالغفران.
وغداً يوم المحشر والمنشر في القدس، عاصمة دولة فلسطين الأبدية، سيقف غبطتكم أمام سيدنا المسيح (ع) لتعترف وتطلب التوبة والغفران، فبماذا ستجيبه إذا سألك:
- "اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ، وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ" (إنجيل لوقا 10:16).
- "تَعَلَّمُوا فَعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ (سفر إشعياء 17:1).
- "وَإِذَا نَزَلَ عِنْدَكَ غَرِيبٌ فِي أَرْضِكُمْ فَلاَ تَظْلِمُوهُ. كَالْوَطَنِيِّ مِنْكُمْ يَكُونُ لَكُمُ الْغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ، وَتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ" (سفر اللاويين 33:19).
الفلسطينيون هم شعب السيّد المسيح (ع)، يأملون من غبطتكم خيراً، وهم في لحظة تاريخية يحققون وحدة داخلية طال انتظارها، منهين انقساماً عمل الاحتلال الإسرائيلي على تعميقه، فيستحقون من نيافتكم المباركة، لأن لبنان وفلسطين، تؤأم الروح.