أعطوا ما عندهم من زبد السورياليّة، فغدوا ممثلين لبنانيين وانطلقوا من بوّابة تلفزيون لبنان نجوماً نحو العالم العربيّ. وكذلك فعل المغَنّون والسّاسة والإعلاميّون. كان تلفزيون لبنان بيتهم الدافئ وحاضن ابداعاتهم وانجازاتهم التي سطّرت الجزء الجميل من ذاكرة لبنان وتاريخه. مرّت الأيام بسرعة، فتحامل الزمن على أبو ملحم وزملائه دون رحمة. شاخ بعضهم، والبعض الآخر مات أمام باب المستشفى. عاشوا فقراء، لا يقوون سوى على الشاعريّة والاستطراد، وضخّ الفرح في نفوس المشاهدين. ماتوا متحسّرين على كلّ شيء. ربّما ظلمهم دستور الدنيا، لكن التاريخ اليوم أنصفهم. ها هم قابعون بعد مرور أكثر من 57 سنة، على شاكلة كنزٍ ثمين في خزنة مصرف لبنان المركزيّ بعد أن سلّم التلفزيون أمانةً، أودع خلالها ثلاثة آلاف ساعة أرشيفية تلفزيونية بعد تأهيل الأرشيف. قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة احتفاءً المناسبة: "ان مصرف لبنان يعتز باحتضان هذه الأمانة، لأنها تجسد تاريخًا وذكرياتٍ وتراثًا، والأرشيف سيوضع في خزنات مصرف لبنان الى جانب العملات". لعلّ رائحة ذلك الزمن الجميل أضحت اليوم أكثر عذوبةً من رائحة العملة الخضراء، ولعلّ لمعان ذكرى ماضي روّاد التلفزيون بات أشدّ بريقاً من لمعان سبائك الذهب المكدّسة. وإذا كانت الليرة هي التي تضمن استقرار الوضع النقديّ في الوطن، فإننا بتنا اليوم نضمن أيضاً استقرار جزءٍ جميل من تاريخ لبنان وهويّة تراثه ولكنة ابناء بلده العفويّة و"البلديّة".
الأرشيف تراث أثري تعود ملكيّته للوطن
بلغ عدد الساعات المؤرشفة التي تمّ ايداعها في المصرف المركزيّ 3000 ساعة، باتت اليوم جزءاً حسيّاً أساسيّاً من التراث الأثري اللبناني. وفي هذا الإطار، يروي رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان الأستاذ طلال المقدسي في حديثٍ للـ"النهار" أهداف ايداع أرشيف التلفزيون اليوم في المصرف المركزي: "يعتبر تلفزيون لبنان ذاكرة لبنان والعالم العربي على حدٍّ سواء، وهو كان التلفزيون الوحيد في المنطقة منذ انطلاقته عام 1959 وحتى عام 1967. فواجبٌ علينا في لبنان أن نحمي هذه الذاكرة ونحافظ عليها، بعد أن كانت مهملة في السنوات الماضية لأسبابٍ صارت وراءنا، واليوم عدنا وابتدأنا عمليّة تأهيلها. وقد أخذ مشروع التأسيس والتأهيل هذ قسطاً كبيراً من الوقت، ويمكننا القول ان الخطوة الكبيرة أنجزت، وتمثّلت بإنتاج مديريّة اداريّة تدعى مديريّة الأرشيف، وجهّزت بالمعدّات اللازمة التي تحتاجها عمليّة التأهيل هذه". ويشير الى "أننا بدأنا التعاون منذ 3 سنوات مع شركة لبنانيّة أخذت على عاتقها تأهيل جزء من الأرشيف الذي بلغ 90 ساعة مصوّرة بتقنيّة قديمة جدّاً كان يفصل خلالها الصوت عن الصورة، وبلغت تكلفة الساعة الواحدة 1853 دولار. أما اليوم فلا نزال نتعامل مع الشركة نفسها التي باتت تؤهّل الساعة الواحدة بمبلغ لا يزيد عن 400 دولار للساعة".
ويلفت الى أن "عدد الساعات التي تمّ تجهيزها وصل حتّى اليوم الى 3000 ساعة، ونفّذ منها نسختين الأولى للاستخدام عند الحاجة، والثانية أودعت في البنك المركزي، وهي عبارة عن خطوة معنويّة قمنا بها بهدف الاهتمام بالتراث وتظهيره للمجتمع اللبناني، لأن عمليّة الإيداع هذه هي مبادرة رمزيّة تتحوّل خلالها الحلقات التلفزيونيّة الى تراث أثري تعود ملكيّته إلى الوطن. وتجدر الإشارة الى أن بعض هذه الحلقات المودعة عرضت على الشاشة بعرضٍ ثانٍ أو أكثر، في حين أن بعضها الآخر لم يعرض مجدّداً". وفي سياقٍ متّصل يطلق المقدسي نداءاً وجهّه عبر "النهار" الى كلّ مواطن حرّ يملك جزءاً أصليّاً من أرشيف التلفزيون بإعادته الى ادارة المحطّة كي يتمّ إعادة تأهيله مع التعهّد بإعطائهم نسخة جديدة عنه، ويؤكّد استجابة كثيرين الى هذا الطلب، حيث أقبل عددٌ كبير من الأشخاص الى إعادة الأمانة إلى أصحابها، وبالتالي فإن الأرشيف ليس ملكاً لأحد بل هو ملك الوطن. ويؤكّد "تعاون إدارة التلفزيون مع جميع المؤسّسات والجامعات التي تحتاج الى استخدام الأرشيف ونعطيها الأشرطة مرفقة بشعار تلفزيون لبنان".
55 ألف ساعة من الزمن العتيق
يوم بدأ التلفزيون بثّه منذ 57 عاماً، كانت التقنيات المستخدمة في التصوير بدائيّة وشاقّة وكان الممثّل يرتجل الدور مباشرةً على الشاشة نظراً لعدم امكانيّة تسجيل الحلقة. انطلاقاً من هذه النبذة، يدخل مدير الأرشيف في تلفزيون لبنان الأستاذ عثمان مجذوب، في حديثٍ للـ"النهار"، في تفاصيل المحتوى الارشيفيّ الموجود وقيمته التاريخيّة والتراثيّة: "كانت البرامج تعرض في العام 1959 مباشرةً على الهواء وبقيت على هذا المنوال حتى منتصف الستينات، حيث بدأنا استخدام تقنيّة الـ2 إنش، وهي عبارة عن أجهزة فيديو وأشرطة كبيرة الحجم، يتجاوز وزنها الـ10 كيلوغرام، وهي تستطيع استيعاب ساعة واحدة من التسجيل. واستمرّ استخدام هذه التقنيّة حوالي 10 سنوات، انتقلنا بعدها الى اليوماتيك في فترة السبعينات، التي تُعتبر أجهزة فيديو مشابهة في الشكل لتلك الموجودة اليوم، لكنّ تقنيّتها لم تكن جيّدة. وفي الثمانينات، استخدمنا تقنية البيتاكام ذات النوعية الجيّدة، ثمّ أضحينا اليوم نستخدم تقنيّة الداتا لحفظ الحلقات المصوّرة". ويشير الى أن "نوعيّة البرامج التي كانت تعرض في أوائل سنوات البثّ الحيّ، تعدّدت بين فنيّة وسياسيّة إضافةً الى مسلسلات دراميّة ترتجل مباشرةً على الهواء، وكان الممثّل في حال أخطأ أثناء أداء دوره، يوقع العرض في أزمة تستدعي ايقاف البثّ لاستعادة زمام الأمور".المقصود من هذا الوصف السردي، أن هذه المحطّات غير متوافرة اليوم في الارشيف، سوى بعض الأحداث المهمّة التي كانت تحصل في البلاد، والتي كانت تصوّر بمفردها على أشرطة سينمائيّة 16 ملمتر، وهي تحتاج الى تحميض وطبع ومونتاج قبل أن تبثّ على الهواء.
ويؤكّد أن "حوالي 55 ألف ساعة مؤرشفة موجودة اليوم في سجّل التلفزيون، لكن أكثر من نصفها يحتاج الى اعادة نسخ وتحويل الى داتا لأنها عرضة للتلف، ونحن اليوم في إطار انجاز هذا المشروع الضخم الذي يحتاج جهداً ووقتاً في آن". "هل من صيغة أو خطّةٍ مبتكرة لإعادة عرض الأحداث المؤرشفة بطريقة خلّاقة؟" يجيب: "نحن في صدد التحضير لبرنامج يعيد بلورة التاريخ القديم بقالبٍ جديد يعرض الحقبات الفنيّة والسياسيّة الغابرة بطريقة مختلفة".
ماذا عن الاستمراريّة؟
"هل سيستوحي تلفزيون لبنان من الزمن الجميل غداً لِيُعيد اتقاد أمجاده الماضية؟" يجيب المقدسي أن "هدف تلفزيون لبنان الأساسي هو الوصول الى كلّ بيت حيث تمّ تجهيز 17 محطّة أرضيّة باتت تغطّي ارضيّاً أكثر من 95% من الأراضي اللبنانيّة، وباتت الصورة نقيّة تعتمد تقنيّة تسجيل ديجيتال". ويشير الى "مشروع اعادة تأهيل محطّة الحازميّة بغية اعادة انتاج الدراما من جديد، وهذا يعتبر مشروعاً ضخماً، بدأنا بتنفيذ الجزء الأوّل منه بعد أن حصلنا على سلفة من الدولة اللبنانيّة بقيمة مليون دولار اميركي. وبتنا نحتاج الى 6 أشهر فقط لتفعيل انطلاقتنا الجديدة، وذلك بعد أن تمرّ القرارات الحكوميّة الإداريّة بالروتين العادي، التي لا أعتقد أنها ستتأخّر أكثر من أسبوعين من اليوم". ويضيف: "كما تمكّنا من وقف الهدر الزائد في المؤسّسة وزدنا نسبة مداخيلها وحقّقنا فائضاً خلال السنتين المنصرمتين، ماجعلنا نحوز معدّات وكاميرات جديدة متطوّرة".
رغم القيمة المعنويّة الكبيرة لاحتضان مصرف لبنان امانة أرشيف تلفزيون لبنان، بيد أن غصّةً واحدة لا يستطيع الزمان أن يدمل جراحها: لو أن روّاد تاريخ لبنان الجميل، أُنصِفوا قبل رحيلهم. ولو أنّهم علموا أن النهاية أبعد من حدود الجسد المتالّم. إنهم يرقدون اليوم بين سبائك الذهب، في حين لم يطلبوا في الأمس سوى ثمن دواءٍ يقيهم المرض، ويخفّف في عيونهم وطأة العتب. لكنّ معاناتهم هذه، كانت جزءاً من عظمة حكايةٍ... توّجها التاريخ تاريخاً.