على وهج الهتافات التي انطلقت من الحناجر الغاضبة، على مقربة من السفارة الاميركية في عوكر، بدا مشهد المتظاهرين المنددين بالعدوان الاميركي على القدس ... عاصمة فلسطين، وما يجري من غليان في الداخل الفلسطيني، من المؤشرات التي ستؤسس للدخول في مرحلة مواجهة التسخين الاميركي في المنطقة، من بوابة القدس وما تحمله من رمزية قومية ودينية للفلسطينيين ولشعوب العالم، ولعل مشهد عوكر بالامس، اعطى صورة حقيقية تؤكد ان هناك شارع شعبي لبناني وفلسطيني ، لا ينتسب الى «حزب الله» وغير موال لايران، منخرط وبفعالية، في المواجهة ضد الاسرائيليين والسياسات الاميركية الحاضنة لهم، ما يؤكد الطابع الوطني والقومي لاي معركة مقبلة.
الغضب الشعبي في ساحات عوكر، والذي كان متناغما مع الموقف الرسمي اللبناني، كان اشبه بعرس لبناني فلسطيني من اجل القدس.. هكذا تكون اعراس القدس، يقولها شاب عشريني التحف علما فلسطينيا، فالساحة في عوكر غطتها الاعلام اللبنانية والفلسطينية والحناجر الهادفة للقدس، لم تقطعها خراطيم المياه التي رسمت حدود حركة المتظاهرين الى الاسلاك الفاصلة عن عناصر القوى الامنية التي شكلت حاجزا بشريا، صُمم ليكون عصيا على اجتيازه من قبل المتظاهرين، فالمطلوب الحفاظ على امن سفارة بلاد «العم سام» وسلامة «روادها»، بالمقابل مواكبة حركة احتجاج المتظاهرين والحد من المنسوب المرتفع لحالة الغضب التي سببها «عدوان ترامب» على القدس،.. باقل الاضرار، ولو اضطر الامر، وفي سابقة لافتة، الى استخدام الرصاص المطاطي.
توقفت اوساط متابعة عند العبارة التي كان يطلقها اليساريون اللبنانيون والفدائيون الفلسطينيون، في مرحلة عُرِفت بـ «المد اليساري» التي امتدت من ستينيات القرن الماضي وحتى اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 .. تهديد المصالح الاميركية في المنطقة التي عادت الى المسامع، يوم كان الشارع العربي يشهد صحوة قومية ارتبطت بصورة وثيقة بالقضية الفلسطينية، فالسياسة الاميركية تجاه ما كان يوصف بـ «قضية العرب والمسلمين»، والتي تقدَّم للعالم اليوم بابشع نسختها، كانت في الاصل لا تحيد عن خط تأمين المصالح الاسرائيلية في المنطقة، على حساب مصالح الشعوب العربية، وبخاصة الشعب الفلسطيني الذي ينادي منذ ما يقارب السبعين عاما بتقرير مصيره في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس.. لم يتغيَّر شيء منذ اُنشىء الكيان الاسرائيلي، هي كانت وما زالت، في موقع الانحياز الكامل مع الاحتلال الاسرائيلي، وبدأت تصدر اصوات لجهات في المقاومة الفلسطينية، تتحدث عن تهديدات للمصالح والمرافق الاميركية في المنطقة، وفي مقدمهم «كتائب ابو علي مصطفى» الجناح العسكري المقاوم للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تصدرت في السبعينيات العمل الفدائي ضد السفارات الاميركية في معظم عواصم العالم وشركات الطيران والقنصليات والمراكز الثقافية والتعليمية التابعة لها، وبالفعل، بدأت الاوساط الدبلوماسية تصلها التقارير التي تتحدث عن اجراءات غير مسبوقة تشهدها السفارات والمصالح والمرافق الاميركية المنتشرة في العالم، وبخاصة في الدول العربية.
ويجزم متابعون لمسار التطورات الاخيرة، بان لبنان سيكون ساحة رئيسة من ساحات المواجهة التي تُرتسم للمنطقة، والتي اعطى اولى اشاراتها الاعلان الاميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرائيلي، ويستند هؤلاء في قول ذلك، الى الملفات المرتبطة بالصراع العربي ـ الاسرائيلي وبخاصة مصير اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان، ومعها ملف النازحين السوريين، وهي ملفات اثقلت لبنان الذي لم ينتهِ بعد من انجاز تحرير كامل اراضيه في الجنوب اللبناني المتاخمة لفلسطين المحتلة والجولان السوري المحتل، سيما في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم الشمالي بلدة الغجر السورية المحتلة.
وان كانت المفارقة المتمثلة بتزامن التطورات الخطيرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والتي تُشغِل عواصم العالم، مع «نأي بالنفس» كثرت تفسيراته وتكاثرت الاجتهادات فيه، تلفت الاوساط الى ان البعض يذهب كثيرا في المراهنة على ان تجديد التسوية التي كانت قائمة اصلا، قبل «فيلم» استقالة الرئيس سعد الحريري، ستُقَيِّد القوى المنخرطة في المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي، ومنها «حزب الله»، لكن الاميركيين كسروا كل قواعد الحرب في المنطقة، وبات لـ «حزب الله» حساباته الجديدة، فالمشهد العربي المقبل، بعد «القدس عاصمة اسرائيلية» اميركيا، قد يكون بنظره، مشابها لمشهد «الربيع العربي»، وما حمله من مخاطر كيانية تهدد مصير لبنان، قبل «حزب الله»، وان باشكال ووسائط مختلفة، فالابواب التي كانت موصدة قبل الاعلان، فُتِحَت على خيارات معقدة ومتشعبة، كلها ستفضي الى عملية واسعة لخلط اوراق القوى المؤثرة في ما يجري، وترى الاوساط.. لن يكون اي خطوة تتعلق بالقضية الفلسطينية اخطر من الخطوة الاميركية التي اتخذت بشأن مصير القدس، وما ستحمله وريقات «رؤوس اقلام» السيد نصرالله في تظاهرة اليوم، سيحدد المسار العام الذي ستسلكه التطورات في المرحلة المقبلة، المرشحة لتكون «حبلى» بحروب قد تكون صغيرة .. او كبيرة، وسيرسم ملامح المرحلة وموقع لبنان منها.
الاثار السلبية التي ستتركها «غزوة» ترامب على القدس، وفق ما ترى الاوساط المتابعة، ستظهر بصورها الخطيرة مع استكمال ما هو معد في الاجندة الاميركية التي حملها الرئيس الاميركي الى من التقاهم من الاسرائيليين في البيت الابيض، وترى انه ليس صدفة ان يسبق الخطوة، تسويق مبرمج للتطبيع بين دول ما يُسمى «الاعتدال» العربي مع الكيان الاسرائيلي، وقد شهد العالم خطوات تطبيعية» من دول وهيئات وكتاب واعلاميين من دول عربية، يسعون الى كسر ما يسمونه «التابو» الذي يُحَرِّم التطبيع، بالمقابل، تفسر اوساط قيادية فلسطينية، ان التهويد الاميركي للقدس من شأنه ان يطيح بمصير كل الملفات التي كانت مدرجة في مفاوضات الحل النهائي بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وحصة لبنان فيها «دسمة»، حيث هناك كتلة شعبية كبيرة للاجئين الفلسطينيين تقيم على ارضه منذ بداية تشكل الكيان الاسرائيلي عام 1948، وتقول.. يعتقد الاميركيون ان بامكانهم حل القضية الفلسطينية بجلسة طارئة لجامعة الدول العربية، تعلن فيها الدولة الفلسطينية المجردة من عناصر الدولة، واعتباره حلا نهائيا للصراع العربي ـ الاسرائيلي الذي راح بعض العرب، وبعد حروب «الربيع العربي» يطلق عليه «الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي»، كدلالة على اخراج الدول العربية من الصراع مع الاسرائيليين، لكن وقائع التاريخ الفلسطيني تثبت عكس ذلك، فالفلسطينيون محاصرون منذ عشرات السنين ورغم ذلك استطاعوا ان يحافظوا على قضيتهم، وهم قادرون على الاستمرار في مواجهة الاحتلال حتى انتزاع حقوقه.
المراهنة باتت على الشارع في الداخل الفلسطيني، تقول الاوساط،.. هو «الماروميتر» الذي سيرتكز اليه المشهد العربي الجديد، واحد منه مشهد تظاهرة عوكر بالامس، فالشارع العربي والدولي استعاد نبضه الفلسطيني، بعد ان غيَّبه ما سُمي بـ «الربيع العربي» المتورط بالتعامل مع الكيان الاسرائيلي، والذي اتسم بـ «الارهاب الاسلامي»، فهل تستفيد القوى الحية من استثمار حركة الشارع بتكريس الوجهة الحقيقية للصراع.. نحو فلسطين؟.. التي شهدت عاصمتها القدس ..اول عملية طعن بالسكين لشرطي صهيوني.