يَمضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب قُدُماً نحو تنفيذ "صفقة القرن" المزعومة لحل القضية الفلسطينية، لكن على حساب الفلسطينيين الذين يرفضون ذلك، وأعلنوا صراحةً عدم أهلية الولايات المتحدة لتكون راعية للسلام، لانحيازها إلى الكيان الإسرائيلي، وتنفيذها كل ما يحقّق مصالحه بقيام دولة يهودية على أرض فلسطين العربية المحتلة وعاصمتها القدس الموحّدة.
وبعد 100 يوم على إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إليها (6 كانون الأول 2017)، يُعتبر أنّ هذا الملف قد أزيل عن طاولة أي مفاوضات مُقبلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأنّ البحث يتمحور حول ملفات متبقية من قضايا الحل النهائي.
في طليعة تلك الملفات، قضية اللاجئين الفلسطينيين، التي نصّت القرارات الدولية على إيجاد حل عادل لهم يضمن عودتهم إلى بلادهم وفقاً للقرار الدولي 194، وأنْ تكون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" التي أُنشئت (8 كانون الأول 1949) مسؤولة عن الإغاثة والتشغيل إلى حين عودتهم إلى فلسطين.
لذلك، فإنّ تركيز إدارة ترامب والكيان الإسرائيلي الآن ينصب على إلغاء وكالة "الأونروا" بهدف شطب الشاهد الدولي على أطول فترة لجوء لشعب في العالم، وتحويل اللاجئين الفلسطينيين إلى "المنظّمة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، التي أنشئت بعد عام من تأسيس "الأونروا" (14 كانون الأول 1950)، لأنّ ملف اللاجئين الفلسطينيين يشكّل معضلة دولية رئيسية، سواء داخل الأراضي الفلسطينية في محيط القدس والضفة الغربية وقطاع غزّة، أو دول الطوق في لبنان وسوريا والأردن ومصر، وتشتيتهم على أصقاع المعمورة في محاولة لتذويبهم في مجتمعات تلك الدول.
توقيت خطير!
وهذا ما يجب التنبّه إليه، خاصة في لبنان، لذلك كان مستغرباً كلام وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل خلال مؤتمر الدعم لـ"الأونروا" الذي جرى أمس الأول (الخميس) في روما، المخصّص لدعم وكالة "الأونروا"، حيث دعا إلى شطب اللاجئين الفلسطينيين الذين يغيبون عن لبنان من سجلاتها، وكذلك مَنْ يحصلون على جنسيات أجنبية بهدف تخفيف الأعباء الاقتصادية والإغاثية عن الوكالة الدولية.
وجاء كلام الوزير باسيل في توقيت خطير وبالغ الدقة والتعقيد، ليزيد غرز خنجر آخر في صدر القضية الفلسطينية، التي يتعامل أبناؤها بصلابة مع الأعداء في العالم، ويجب أنْ يكونوا مطمئنين إلى الأشقاء والأصدقاء، لكن التجارب علّمتهم الحذر، لأنّ التضحية تكون دائماً على حساب القضية الفلسطينية.
وبات الفلسطينيون لا يأخذون ببعض الشعارات الرنّانة، التي يكون إطلاقها محاولة للبروز بوجه جميل، وهو ما كان قد أعلنه الوزير باسيل بعد الاجتماع غير العادي لوزراء خارجية جامعة الدول العربية في القاهرة (9 كانون الأول 2017)، بطرح إنشاء سفارة للبنان بالقدس، وكان الحرص الفلسطيني بالموافقة على ذلك وتقديم قطعة الأرض، لكن بعد إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس محرّرة من الإحتلال الإسرائيلي.
وإذا كان الوزير باسيل يجيد اقتناص الفرص والاستغلال الطائفي الشعبوي، للاستفادة من شد العصب المسيحي في وجه مذاهب أخرى، فإنّ ذلك يوضع في حسابات "بازار" الانتخابات النيابية أو المكاسب السياسية، لكن دعوة وزير الخارجية وكالة "الأونروا" لشطب اللاجئين الفلسطينيين من سجلاتها، هو الأمر الخطير، لأنّ ذلك يتنافى مع موقف لبنان الرسمي والشعبي والأحزاب السياسية، ويحتاج إلى توضيح، وإنْ كان هناك مَنْ يرى فيه محاولة من قِبل الوزير باسيل لكسب ودّ الإدارة الأميركية، وتساعده في تمهيد الطريق لملاقاة ترامب، ويوظّفها في إطار سباق الاستحقاق الرئاسي اللبناني المقبل!
ليست "زلّة لسان"!
إنّ مثل هذه الطروحات في خطورتها وتوقيتها، تكشف الكثير من الخبايا، وتؤكد أنّها ليست "زلّة لسان"، فالمنطقة مقبلة على تطوّرات كبيرة مع اقتراب تكريس ترامب عملانياً لما أعلنه ووقّع عليه، لأنّ تنفيذ ذلك، يعني انفجاراً بالمنطقة، ولبنان لن يكون بمنأى عن تداعياته، بل سيكون في قلب الحدث ويتجاوز المخيّمات الفلسطينية إلى أماكن متعدّدة، لأنّه لا يمكن الاستسلام والرضوخ لقرار الرجل "المتهوّر" في البيت الأبيض.
وأيضاً اللاجئون الفلسطينيون الذين يغادرون إلى دول العالم، يحوّلون أكثر من ملياري دولار أميركي سنوياً إلى أهلهم اللاجئين في لبنان.
وحبّذا لو ينزع الوزير باسيل من مخيّلته أنّ الفلسطينيين هم سبب الحرب العبثية في لبنان.
فالفلسطينيون كما اللبنانيون، دفعوا الثمن في الحرب العبثية، التي عصفت بلبنان (13 نيسان 1975)، لأنّ هناك قسماً كبيراً من اللبنانيين شعر بالغبن والحرمان والاضطهاد على مدى سنوات حكم "المارونية السياسية"، والفلسطينيون لرفض الإملاءات الأميركية بالتنازل عن حق العودة والقبول بالتوطين، خاصة أنّ ذلك جاء بعد قمّة الجزائر (26 تشرين الثاني 1973) والاعتراف بـ"منظّمة التحرير الفلسطينية" ممثّلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، و"القمة العربية" في الرباط بالمغرب (26 تشرين الثاني 1974)، واجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة (1-8 حزيران 1974)، الذي أقرَّ النقاط العشر "البرنامج المرحلي"، وصولاً إلى دخول الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى "الأمم المتحدة"، كأوّل قائد ثورة يُلقي خطاباً من على منبرها، وينتزع اعترافاً بمقعد لـ"منظّمة التحرير الفلسطينية" (13 تشرين الثاني 1974).
ومن ثم جاء اغتيال المناضل معروف سعد (26 شباط 1975) والاعتداء على بوسطة عين الرمانة (13 نيسان 1975).
والفلسطيني لم يغتل الشهيد معروف سعد، ويمكن للوزير باسيل أنْ يسأل عمّه الرئيس العماد ميشال عون (الذي كان آنذاك في "ثكنة الشهيد محمد زغيب" للجيش اللبناني في صيدا، ضابطاً برتبة رائد بعد أشهر من ترقيته من نقيب)، وماذا بيّنت التحقيقات التي أجرتها المؤسّسة العسكرية حول دوافع وأسباب هذا الاغتيال!!
إصرار لإدخال الفلسطيني بالفتنة
وكان الهدف يومها زج الفلسطيني في أتون الصراع، والصورة ذاتها اليوم، حيث هناك مَنْ يصر على إدخال الفلسطيني في فتنة، هو يرفضها، فيعود المشهد ذاته ليدفع ضريبته اللبناني والفلسطيني.
عندما يستعد الوزير باسيل للاحتفال بعيد ميلاده في كل عام منذ (21 حزيران 1970)، يتذكّر الفلسطينيون والعالم في (20 حزيران) يوم اللاجىء العالمي، فهل شعرت يوماً بما يشعرون به؟!
في التعاليم السماوية، هناك توبة وغفران، فماذا سيقول الوزير باسيل للسيد المسيح وهو يحتفل بالجمعة العظيمة والفصح المجيد، ومن ثم في عيد الميلاد؟!
والإنجيل يحدّثه: "وَإِذَا نَزَلَ عِنْدَكَ غَرِيبٌ فِي أَرْضِكُمْ فَلاَ تَظْلِمُوهُ. كَالْوَطَنِيِّ مِنْكُمْ يَكُونُ لَكُمُ الْغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ، وَتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ". (سفر اللاويين 33:19).
وبماذا سيبلغ نجله وهو يحتفل وإياه بإضاءة شجرة الميلاد أو شمعات أحد الشعانين، فيما أبناء فلسطين من هم في عمره أو أكبر بسنوات قليلة، عرضة لمنع الإحتلال لهم من إضاءة الشموع، أو يحرقهم بها كما حصل مع الشهيد محمد أبو خضير وعائلة الدوابشة، أو حتى يُمنعوا من التوجّه إلى كنائسهم ومساجدهم، فيحملون الحجارة ليقذفوها ضد المحتلين وكأنّها من سجّيل.
في شهر الصوم المسيحي، حبذا لو صام الوزير باسيل عن الكلام، خاصة أنّ الفلسطينيين المتحدين في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، مسلمين ومسيحيين، متيقنون من أنّ الإحتلال يستهدفهم، ويسعى إلى اقتلاعهم من أرضهم المتجذّرين فيها، فهي البلد الوحيد في العالم على وجه الأرض، التي تتواجد فيها الديانات السماوية الثلاث، وبينها مهد السيد المسيح (ع) الشاهد على جرائم الإحتلال بحقه، ونحن نعيش أيام الجلجلة على طريق الآلام منذ الاضطهاد الأوّل الذي تعرّض له الفدائي الأوّل السيد المسيح (ع) من قِبَل بني إسرائيل والمستمر إلى يومنا هذا.