لقد أُنزِل الرئيس دونالد ترامب عن الشجرة التي صعد إليها منذ أيام عدة بعدما حَشَدَ الأساطيل والقوات البحرية والجوية لتوازي الحشْد اللوجستي لعمليةٍ أقل بقليل من «عاصفة الصحراء». إلا أن الاتصالات التي أجرتْها روسيا قبل الضربة الثلاثية الأميركية - البريطانية - الفرنسية - عند الساعة الرابعة فجراً والتي أطلقت فيها قوات التحالف 103 صواريخ على أهداف سوريّة ودامت نحو ساعة - أوقفتْ الخطة الكبرى التي كانت تقضي بالقضاء كلياً على مَفاصل الترسانة العسكرية السوريّة ومراكز الدولة والقصر الجمهوري.
وأكدت مصادر سورية وروسية أن أميركا وضعتْ خطةً عسكرية أراد ترامب تنفيذَها وتقضي بضرْب وزارة الدفاع والقصر الجمهوري ومراكز القيادة والسيطرة وألوية النخبة في الجيش والثكن الأساسية والقوة السورية الاحتياطية ومراكز الاستخبارات ومَخازِن الأسلحة الإستراتيجية.
وحسب المعلومات، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاتصال برؤساء دول عدة لشرْح موقف روسيا ورفْضها أي ضربة تؤدي إلى تدمير القوة السورية أو ضرْب القيادة السياسية. وأكدت موسكو للقيادة السورية أن الغرب سيفكر ملياً قبل القيام بأي ضربة تُحْدِث أي تغييرٍ في المعادلة على أرض المعركة في سورية.
ويبقى السؤال ما سبب الضربة الحقيقي وراء الهجوم الأميركي - البريطاني - الفرنسي؟ مع العلم أن خبراء منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية وصلوا إلى دمشق، ومن المقرَّر أن يبدأ عملهم في دوما للكشف على الموقع الذي أشيع أنه استُخدم فيه السلاح الكيماوي ضد المدنيين.
تقول مصادر قيادية: «ان سورية وروسيا كانتا تخوضان معركة - مع الحلفاء - على محور مدينة إدلب وقد وصلت إلى مطار أبو الظهور. إلا أن الحملة العسكرية توقفتْ بشكل فجائي وأُخذت القوة البرية والجوية بأكملها باتجاه الغوطة الشرقية. إذ علمتْ روسيا بحشْد قواتٍ برية لحلفاء أميركا (تُقدّر بعشرات الآلاف من المعارضة السورية) وقوات جوية في قاعدة التنف المحتلة على الحدود السورية - العراقية تحضيراً لمعركة كبرى تتّحد فيها هذه القوة لتصل الى الغوطة الشرقية من جهة البادية وتندمج مع أكثر من عشرين ألف مقاتل ليخرجوا جميعاً باتجاه العاصمة دمشق ويحتلّونها. وقد دفع ذلك إلى تغيير الخطة العسكرية والذهاب إلى الغوطة لتحريرها. وهذا ما أَفْسد على أميركا خطتها الكبرى بإسقاط النظام في دمشق وفرض بقاء روسيا وقواتها في اللاذقية وطرطوس لتخسر حرباً بأكملها كانت قد شارفتْ على نهايتها ما عدا بعض الجيوب في الشمال والجنوب».
لقد ضربتْ روسيا بقوة وقصمتْ ظهر الخطة الأميركية، وفقاً للمصادر، وفرضتْ خروج كل المسلّحين والمعارضين وعائلاتهم إلى الشمال السوري لتصبح العاصمة شبه آمنة عدا وجود «القاعدة» و«داعش» في مخيم اليرموك والحجر الأسود في جنوب دمشق. ولإكمال خطة أميركا، كان من المفروض بدء معركة من درعا جنوباً باتجاه العاصمة لجذْب الجيش السوري إلى الجنوب وإبعاده عما كان يُدبَّر في التنف باتجاه دمشق.
وتعتبر المصادر أن روسيا نجحت بإفراغ الضربة العسكرية الثلاثية من قوّتها ومضمونها وفرضتْ «ضربةً مقيّدة» ذات فائدة صفر لا تغيّر شيئاً في الواقع العسكري والسياسي في سورية. وضربتْ أميركا وتحالفها الثلاثي أهدافاً شبه ميتة كانت إسرائيل تضربها مراراً وتكراراً، وأهدافاً شبه فارغة لأن الجيش السوري أبقى على 5 في المئة من قواته في الثكن والمراكز العسكرية المهمّة والمطارات.
واستخدمتْ أميركا صواريخ «ذكية وحديثة» ردّت عليها روسيا باستخدام منظومة دفاعٍ سوفياتية قديمة (من طراز بانتسير وإس 200 وتور إم -1) وأسقطتْ ثلثيها، كما أفادت وزارة الدفاع الروسية.
وظَهَر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بأنه هو الذي يدير اللعبة لأنه رفَض مواجهةً مع روسيا مباشِرة وفرض «ضرْبةَ شَرَفٍ» لإرضاء رئيسه القليل الخبرة والذي أنعش الرئيس السوري الذي ظهر بمظهر الصامد الذي لا يتأثر بتهديدات أميركا وحلفائها ليصبح أقوى من قبل، على حد قول المصادر. ولم يستفزّ الجانب الأميركي - البريطاني - الفرنسي روسيا لأنه لم يمرّر أي ضربة أو صاروخ فوق مناطق سيطرتها بعدما أَظهرتْ موسكو نيّتها العسكرية بالردّ إذا لزم الأمر من خلال غاراتها الوهمية فوق القطع البحرية الأميركية - الفرنسية وإثبات أن منطقة عملياتها تملكها هي ولن تسمح بتجاوزها، وصولاً الى إحضارها مدمّرة امام الشاطئ اللبناني لتحمي هذه الخاصرة وتمنع أي نقطة سوداء لا ترى فيها.
ولم تنجرّ روسيا الى حرب مباشرة مع أميركا تريدها واشنطن بقوّة لتُضعِف موقف موسكو وتعيد إليها ذكريات أفغانستان. ولم يقع بوتين بالفخ الذي أوقعتْ فيه المخابرات الأميركية «سي آي إي» ميخائيل غورباتشوف العام 1979 عندما بدأتْ دعمها للمجاهدين الأفغان 6 أشهر قبل الاجتياح الروسي لأفغانستان والذي قال عنه زبغنيو بريجينسكي انه «أعطى الاتحاد السوفياتي حرب أفغانستان ليغرق فيها». وهكذا ستدير موسكو اللعبة العسكرية المقبلة في سورية وكذلك السياسية.
ما الخطوة التالية؟
تتجه الأنظار والقوى العسكرية نحو مدينة إدلب الشمالية التي يسيطر عليها تنظيم «القاعدة» بعد الاطمئنان إلى مصير دمشق عقب تحرير الغوطة. ولكن لماذا إدلب؟
الوضع في مخيم اليرموك يبدو لغاية اليوم مرتبطاً بمصير الفوعة وكفريا كما كان الوعد والاتفاق الذي عُقد أيام الزبداني. ويصرّ الجيش السوري على تنظيف العاصمة كلياً من أي تهديدٍ بينهما يحاول حلفاء دمشق احترام الالتزام الساري المفعول.
أما بالنسبة الى درعا والقنيطرة، فيبدو ان هاتين المحافظتين تستفزان أميركا، وتحاول روسيا إبقاءهما الى النهاية، فيما هناك خططٌ في ما خص البادية لإنهاء وجود «داعش» المحاصَر فيها قريباً. إذاً تبقى إدلب. وعلى الرغم من الاتفاق التركي - الروسي - الإيراني الاقتصادي، فلا شك في وجود خلاف واضح بين الحلفاء الاقتصاديين حول سورية وملفّها.
فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان أيدّ الضربة ضدّ سورية وردّت عليه روسيا بالطلب منه تسليم عفرين، وردّت إيران على لسان علي ولايتي، ممثّل المرشد الأعلى علي خامنئي في الملفّ السوري، بأن ادلب هي الهدف المقبل. ومن المتوقع ان ينسحب اردوغان من اتفاق شراء الـ «إس 400» من روسيا، كما تتوقّع موسكو.
إذاً البوصلة تتجه نحو حمص، الرستن، جسر الشغور حتى ولو كانت لتركيا مراكز مراقبة في محيط العيس ومحيط ادلب. فكما انسحبتْ روسيا من عفرين تستطيع تركيا الانسحاب من نقاط المراقبة وتوفّر على نفسها وعلى «درع الفرات» خطر الإصابة.
وتُحْشَد القوات حول ادلب وفي ريف اللاذقية لإنهاء وجود «القاعدة» (او جبهة النصرة او هيئة تحرير الشام) هناك وتحرير المدينة بعد تقسيمها كما قُسمت الغوطة قبلها.
إذاً موعد «السلاح الكيماوي» المقبل متوقَّع، حسب المصادر، أن يكون حيث المسرح التالي لعمليات الجيش السوري والروسي وحلفائهما. إلا ان الضربة هذه المرة ستكون ضدّ تنظيم «القاعدة». فهل ستقف أميركا مع هذا التنظيم؟ طبعاً يقول المراقبون. إذ ان الأمر لا يتعلق بمبدأ استخدام السلاح الكيماوي من عدمه بل ببسْط السيطرة الأميركية على بلاد الشام ونزْع السيطرة الروسية عنها.