تمضي السنوات سريعاً وتبقى الذكرى العطرة لمَنْ ترك بصمات في حياته، فكيف إذا ما كانت مفاعيلها مثمرة إلى ما بعد الرحيل.
هذا ما ينطبق على مفتي صيدا والجنوب السابق الراحل الشيخ محمد سليم جلال الدين، الذي رحل في 27 نيسان 2007.
11 عاماً على رحيل المفتي جلال الدين (المولود في صيدا 10 كانون الثاني 1912) عن 95 عاماً ميلادياً و98 عاماً هجرياً، سنوات كانت حافلة بالإنجازات والمحطات المفصلية، لرجل قدوة في كل المجالات، مواقف بطولية في مواجهة المحتل الإسرائيلي والدفاع عن قضية فلسطين وحقوق المظلومين.
صاحب الرأي السديد في اللحظات المفصلية، الحكم في الملمات، والمفعم بالعلم.
كان صمّام الأمان وجريئاً في قول كلمة الحق غير آبه بأي شيء.
"بركة صيدا"، كان عطوفاً ورؤوفاً ومتواضعاً، له الكثير من المواقف والمبادرات، لينطبق عليه قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
وهذه الصفات الثلاث كما كرّسها المفتي جلال الدين في حياته، ما زالت مستمرّة بعد رحيله.
فالصدقات الجارية عديدة، من تشييد المساجد والمعاهد والمدارس والجوائز القرآنية والوقفيات.
وعلمه الذي أفاد منه الكثيرين، وأصدره في كتب كان آخرها "وتبقى الذكريات.. صدى السنين"، ليغرف منها الجيل الناشئ من تجربة شيخ جليل.
وولد صالح يدعو له، فها هي أسرته الصغيرة والكبيرة يتسابقون بالدعاء له وعمل الخير لعلهم يوفونه جزءاً يسيراً من عطاءاته وتقديماته ومكانته.
وهب الأعضاء
ومآثره ومواقفه عديدة في الملفات والقضايا التي تحتاج إلى موقف حازم يستند إلى تعاليم الإسلام السمحاء، ومنها بشأن الجدل الذي كان قائماً حول وهب الأعضاء بالتبرع بأحد أعضاء جسم الإنسان بعد وفاته، وموقف الشرع منه.
وهو ما أعلن عنه بداية تسعينات القرن الماضي، وسار على خطاه كثيرون، فأنقذ حياة العديدين، ونال المتوفّون الرحمة.
وقال المفتي جلال الدين: "إنّ الحديث عن نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر من الناحية الشرعية، أسئلة كثيرة أهمها ما جاء فيه من اختلاف الفقهاء المعاصرين، واستدلال كل فريق على رأيه بالأدلة الشرعية.
ومن أجل ذلك لا بدّ من توطئة توضح مصادر الأحكام الفقهية المعتمدة والمتمثّلة - بالكتاب والسُنّة والإجماع والقياس.
أما الكتاب العزيز - أي القرآن الكريم - فهو كلام الله عز وجل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل العزيز الحكيم.
وأما السُنّة النبوية فهي تشتمل على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته.
وأما الإجماع، فهو اتفاق فقهاء الأمة جميعاً في وقت ما على حكم شرعي، وهو من المصادر الفقهية التي أكسبت الفقه الإسلامي حيوية فياضة، وهو حجّة شرعية في ذاته، وهو عظيم الشأن والأهمية، لأنّه عند عدم النص في الحادثة الطارئة يغني عن النص، ذلك لأنّه ما دام قائماً على أساس اتفاق آراء العلماء الصالحين الذين اجتمع لهم العلم والتقوى والاجتهاد، فلا بدّ من أنْ يكون اتفاقهم مستنداً إلى دليل شرعي من مقاصد الشرعية المستفادة من مجموع نصوصها وقواعدها العامة والقياس الاجتماعي الصحيح ما يطمئن معه النفس إلى أنّ ما اتفقوا عليه من حكم يجب أنْ يكون هو الأقرب نسبياً إليها، والأكثر تلاؤماً مع أهدافها الصالحة.
والآن، وبعد هذه التوطئة نعود إلى صلب الموضوع، فالعلماء الذين قالوا بعدم جواز أخذ عضو من جسم حي وزرعه في جسم آخر، انطلقوا من أنّ الإنسان ليس بمالك لجسمه وروحه، بل إنّما هو أمين عليهما فلا يجوز له أنْ يستعمله في محل نهى الله سبحانه وتعالى عنه، فالتصرّف فيه من غير إذن المالك الحقيقي يُعتبر - خيانة - والمالك الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، وأما نقل عضو من أجزاء الميت إلى إنسان حي فلا يجوز عندهم، معتبرين مبدأ احترام الإنسانية يشمل الحي والميت كليهما على السواء.
ويقول رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشيخ عطية صقر ردّاً على ذلك: احتج بعض المحرصين أيضاً بأنّ جسم الإنسان ليس ملكاً له، فلا يجوز التصرّف به، وهذا كلام غير محرّر، فإنّ الذي لا يملكه الإنسان هو حياته وروحه فلا يجوز له الانتحار ولا إلقاء النفس في التهلكة، أما من حيث أجزاء الإنسان المادية فهو مالكها وله أنْ يتصرّف بها بما لا يضر ضرراً لا يحتمل، أما التبرّع من أعضاء الميت فلا بأس به ويجوز لمَنْ يحتاج إليه إذا وافق على ذلك في حياته، وليس هناك دليل على التحريم.
وقد أصدر "مجلس المجمع الفقهي الإسلامي" إجازة أخذ عضو بعد الوفاة في دورته الثامنة المنعقدة بمبنى "رابطة العالم الإسلامي" في مكة المكرّمة في الفترة من يوم السبت 19 كانون الثاني 1985 لغاية يوم الاثنين (28 منه) القرار الآتي:
* أولاً: إنّ أخذ عضو من جسم حيّ وزرعه في جسم إنسان آخر مضطراً إليه لإنقاذ حياته، أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية هو عمل جائز لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه، كما أنّ فيه مصلحة كبيرة، وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد إذا توافرت فيه الشرائط الآتية:
1- ألا يضر أخذ العضو من المتبرّع به ضرراً يخل بحياته العادية، لأنّ القاعدة الشرعية، أن الضرر لا يُزال بضرر مثله، ولا بأشد منه، ولأن التبرّع حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهو أمر غير جائز شرعاً.
2- أنْ يكون إعطاء العضو طوعاً من المتبرّع دون إكراه.
3- أنْ يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض المضطر.
4- أنْ يكون نجاح كل من عمليتي النزع والزرع محققا في العادة أو غالباً.
* ثانياً: تُعتبر جائزة شرعاً بطريق الأولوية الحالات التالية:
1- أخذ العضو من إنسان ميت لإنقاذ إنسان آخر مضطر إليه، بشرط أنْ يكون مكلفاً وقد أذن بذلك حال حياته.
2- أنْ يؤخذ العضو من حيوان مأكول ومذكى مطلقاً، أو غيره عند الضرورة لزرعه في إنسان مضطر إليه.
3- أخذ جزء من جسم الإنسان لزرعه أو الترقيع به في جسمه نفسه، كأخذ قطعة من جلده أو عظمه لترقيع ناحية أخرى من جسمه بها عند الحاجة إلى ذلك.
4- وضع قطعة صناعية من معادن أو مواد أخرى في جسم الإنسان لعلاج حالة مرضية فيه، كالمفاصل وصمام القلب وغيرهما، فكل هذه الحالات الأربع يرى المجلس جوازها شرعاً بالشروط السابقة.
إنّ وهب الأعضاء بعد الممات فكرة جليلة، وتوجّه إنساني ووطني، والقصد نبيل وشريف، ويتطلّب العون والدعم من جميع مَنْ يقدّر الكرامة الإنسانية، ويؤمن بالرابطة التي تنشد الإنسان إلى أخيه الإنسان، وتدفعه إلى الاهتمام به، والتخفيف من آلامه، وبذل الغالي والثمين في سبيل إنقاذ حياته والوقوف إلى جانبه، وليس أدل على هذا الشعور الإنساني من أن يتنازل المرء عن عضو من أعضائه بعد مماته وذلك بالموافقة حال حياته على أخذ هذا العضو وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه فينقذ حياته، فهذه خطوة جريئة ومباركة، وعمل مشكور، ويسري عليه حكم قرار "مجلس المجمع الفقهي الإسلامي" المار ذكره، شرط أن تطبق جميع الشروط الواردة فيه".