أخي العزيز "أبو لامي"،
أخطُّ بضع كلماتٍ، وأدركُ تماماً أنّها المرّة الأولى التي لن تصلك، وأتلقّفَ جواباً عليها، ربما لم تسعفني حرقة ألم الفراق على إيفائك حقك، لكن إنصافاً لمسيرة عزيز عرفته عن كثب منذ سنوات عدّة، استمراراً لعلاقة بين والدينا والأهل، لم يتغيّر فيها يوماً من الأيام، تعدّدت فيها المناسبات واللقاءات والأحاديث في لبنان وخارجه، لساعات وساعات طويلة.
ربما كان لقاء الوداع في دارتك بالشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، ليل الجمعة 23 تشرين الثاني 2018، اجتمع فيه كافة أفراد عائلتك، والدتك وأشقاؤك وشقيقاتك والزوجة الصابرة "أم لامي"، ووالدتها والأولاد، بحضور العزيز خليل عمر الموعد "أبو عمر"، وكنتُ حينها قادماً من فلسطين، التي كنت تتمنّى العودة إليها.
على رغم الألم الذي كان يعتمر قلبك، وينتهك جسدك، تحمّلت وتحدّثت واطمأننت عن مخيّم عين الحلوة وصيدا وفلسطين ولبنان، ولدى الوداع، وكأنّ قلبك كان ينبئوك بأنّه اللقاء الأخير، حمّلتنا التحيات والأمنيات والتوصيات بأنّ "أمن مخيّم عين الحلوة أمانة وعلاقاته الوثيقة مع صيدا والجوار ضرورة".
وختمتَ: "إنْ شاء الله سأعود قريباً إلى المخيّم"، بعدها بأيام عاد المرض الخبيث ليفتك بجسدك، وتُنقل إلى المستشفى الذي غادرته مفارقاً للحياة.
إنّه المهندس جمال عبدالله رباح "أبو لامي"، رئيس "رابطة آل رباح"، رجل الأعمال والخير والبر، إبن بلدة حطين في فلسطين المحتلة، الذي أبصر النور في مخيّم عين الحلوة، في مثل هذه الأيام من شهر كانون الثاني 1956.
جمال، الإسم الذي اختاره له والده، تيمّناً بالزعيم جمال عبد الناصر، كان دائم الانتقال بين صيدا ومخيّم عين الحلوة وإمارة الشارقة في دولة الإمارات، حيث إقامته وعمله.
الرجل ذو المعدن الأصيل، طغت عليه الطيبة والتواضع، فامتاز بدماثة خُلُقه، وحُسن لقائه، وطيب مُحيّاه، وابتسامته التي لا تُفارق ثغره، ولهفته على أبناء مخيّمه وشعبه، ومَنْ عرفه أو عَلِمَ أنّه على معرفة مع أحد أقاربه أو أصدقائه، فهو لا يترك مناسبة إلا ويكون مبادراً للمشاركة، ترحاً أو فرحاً، اطمئناناً إلى صحة مريض، أو مباركة، أو مناسبة اجتماعية، فقد كان صاحب همّة عالية ونخوة، وحريصاً على المخيّم، وتقريب وجهات النظر بين مختلف الفصائل والقوى والأطراف، فيُدين له الكثيرون بتحقيق مصالحة أو إنهاء قطيعة.
عانى من مرض عضال فتك به، وعلى الرغم من الألم، بقي صابراً مؤمناً بما كتبه الله الذي آمن به وعمل بما يرضيه.
آمن بالعمل الاجتماعي، فكان أوّل مَنْ قام بمبادرة فردية لإنشاء "مجمّع آل رباح" في المخيّم، ويضم مسجداً وروضة وقاعة وديواناً ومكتب الخدمات الاجتماعية، بهدف مساعدة أبناء عائلته وبلدته ومخيّمه، في مواجهة متطلّبات الحياة العصيبة، في ظل الضائقة الاقتصادية التي يعيشونها، مع المعاناة في العمل والطبابة والتعليم ونواحي الحياة كافة، وكان اهتمام بالأرامل والمحتاجين والأيتام، وتأمين الترفيه لهم، مع توفير العلم والتربية للأطفال، انطلاقاً من الحرص على تعليمهم منذ الصغر، وانتشالهم من مخاطر الآفات الإجتماعية.
وتابع مسيرة والده الحاج عبدالله، وسار على خطاه، بإفساح المجال أمام أبناء عائلته وبلدته حطين، وكُثُرٌ ممَّنْ يعرفهم للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي افتتح فيها مكتباً للإستشارات الهندسية وشركة عقارات، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بعدما أنهى دراسته الجامعية بالهندسة في الهند، والتخصّص في تكساس في الولايات المتحدة الأميركية.
عندما أعاد تأسيس "رابطة آل رباح" في مخيّم عين الحلوة في شهر آب 2000، كان لإحياء الرابطة التي أسّسها والده الحاج "أبو رمزي" في العام 1963، مفتتحاً ديون آل رباح ومصلى، قبل أن يشيّد في آب 2001 روضة، أطلق عليها إسم والد زوجته الشهيد العقيد فالح رباح، وبنى مسجداً حمل إسم والده الراحل الحاج عبدالله في نيسان 2002، مع ديوان جديد لـ"رابطة آل رباح"، كان متنفّساً للعديد من القاطنين جنوبي مخيّم عين الحلوة لإقامة مناسباتهم فيه، وقد دعوتُ لإطلاق إسم المهندس جمال رباح عليه خلال حفل توقيع كتابي "الأوائل على درب فلسطين"، الذي أُقيمَ في تلك القاعة، خلال شهر تموز 2012.
رحل المهندس الذي هندس علاقاته من أجل مصلحة أبناء شعبه ومخيّمه، وتجسيدها مع صيدا والجوار، حيث اتسعت مروحة علاقاته لتشمل الأطراف الفلسطينية كافة، على الرغم من التباينات السياسية، ونحو مدينة صيدا، التي ارتبط بعلاقات وطيدة مع مختلف فاعلياتها وقواها، فضلاً عن علاقاته بالسياسيين ورجال الدين والقضاة والقادة الأمنيين والعسكريين.
في وداع "أبو لامي" شارك حشد غفير في التشييع من مختلف الأعمار، شيوخاً وشباباً، تتقدّمهم شخصيات صيداوية، ومن الفصائل والقوى واللجان الفلسطينية، التي كثيراً ما كان يجمعها الراحل في مناسبة متعدّدة، فاجتمعت في وداعه، على الرغم من الطقس العاصف، فأصرّوا على المشاركة سيراً على الأقدام، وفاءً لمَنْ شاركهم في مناسباتهم، انطلاقاً من المسجد الذي بناه، إلى مقبرة الشهداء - جنوبي المخيّم، الذي أحب، وتنفيذ الوصية بمواراته الثرى في الضريح ذاته، الذي كان قد سبقه إليه والده، وديعة على أمل نقل الرفاة إلى أرض بلدته حطين في فلسطين، بعد تحريرها كما فعل صلاح الدين.
رحيل عزيز أبكى الرجال الرجال، فلم يتمكّنوا من حبس الدموع في مقلهم، فذرفت حزناً على غياب "أبو لامي"، وهم يردّدون: "خسارة كبيرة لمعدنٍ أصيل من الصعوبة تعويضها".
تغمّد الرحمن الراحل بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم والدته وأشقاءه وزوجته "أم لامي" والأبناء وأفراد العائلة وآل رباح وأهالي بلدة حطين وكل مَنْ عرفه الصبر والسلوان.
رحمات الله عليك أيها العزيز "أبو لامي"، سنفتقدك كثيراً، لكن ستبقى سيرتك العطرة وعملك الطاهر، يشهدان لك في الدنيا ويرافقانك في الآخرة.