الجمعة 29 آذار 2019 12:49 م

رحيل د. عدنان النوام.. وبقيت "المقاصد" قمر صيدا


* هيثم زعيتر

يطوي الدكتور عدنان محمّد النوام برحيله (عن 93 عاماً)، حقبة هامة من ذاكرة صيدا، كانت له فيها صولات وجولات وبصمات، حُفِرَتْ في العقل والقلب، وتركت آثارها في العديد من المجالات.
في المراحل كافة، والمراكز التي تبوأها - وهي عديدة ومتشعّبة - كان تعامله مستعيناً بسمّاعته لتشخيص الحالة، ومعاينة النبض والحركة، وتحديد الداء، ثم وصف الدواء للمعالجة وبلسمة الجراح، مصحوبة بابتسامته المعهودة التي لم تفارق ثغره، فكان لها أثرها الناجع في العلاج إلى جانب الدواء.
هذه الروحية أوقعها الدكتور عدنان على القضايا كافة، فكان همّه الأوّل الخدمة، دون انتظار مقابل مادي أو حتى معنوي، بل التزاماً بما تربّى عليه في منزل العائلة، وما تعلّمه في "مقاصد" – صيدا، وصولاً إلى "كلية الطب" في القاهرة، والرسالة التي حملها يوم قسم الطبيب.
لم يسعَ يوماً إلى منصب، رغم أنّه كان موضع إجماع على أنّه أفضل مَنْ يُمكن توليه زمام الأمور، الدكتور عدنان النوام، الذي تشارك في المهام والعمل مع أترابه في الدراسة، والذين أصبح كُثُر منهم لامعين في مجالات متعدّدة، بل أيضاً مع عدد من أساتذته.
الكثير من المهام مستحدثة، وكان الدكتور عدنان أوّل مَنْ يتولّى المسؤولية فيها، فعمل على التطوير وامتلك خبرة كبيرة، زوّد بها الأجيال الشابة نصحاً وتوجيهاً، بكل طيب نفس.
عرفتُ الراحل على مدى أكثر من ثلاثة عقود ونيف، فكان الإنسان المثقّف المتواضع، وطالت الجلسات بين عيادته و"المقاصد"، وفي دارة صديقه الراحل الوزير والنائب الدكتور نزيه البزري، وغالباً بحضور صديقهما المشترك الراحل الحاج محمّد علي الشماع.
أحاديث ومحطات وذكريات علّها تُساهم بالإضاءة على سيرة الراحل..
الطفل عدنان الذي أبصر النور في العام 1926، دخل إلى "كلية المقاصد الاسلامية" في صيدا، وهو أصغر من أترابه، في سن الخامسة، وتخرّج منها في العام 1944، حيث صقلت تلك الفترة شخصيته، بالإلتزام الديني والانفتاح بالتعايش المشترك، والنضال من أجل القضايا الوطنية والقومية، فغرس فيه حب الوطن والحرية والدفاع عن المظلومين والمضطهدين، فضلاً عن تفاني الأساتذة في تعليم طلابهم، وأعضاء الجمعية المتطوّعين بالعمل الخيري والاجتماعي والإنساني والأخلاقي، بجهد جماعي في البناء والتطوير والمشاركة في النضال من أجل القضايا المطلبية والوطنية، وفي طليعتها يوم اعتقال الانتداب الفرنسي رجال الاستقلال في تشرين الثاني 1943، والتظاهرة التي انطلقت من "المقاصد" - صيدا، على الرغم من تعرّضها لإطلاق النار من الجنود الفرنسيين.
لأنّ السنة الأخيرة في المرحلة الثانوية لم تكن متوافرة في "المقاصد" - صيدا، انتقل إلى "كلية المقاصد الإسلامية" في بيروت، فتخرّج منها في العام 1945 في البكالوريا - القسم الثاني - فرع الفلسفة.
هذه الشهادة كانت تتيح للخريج الدخول إلى الجامعات المصرية، فتوجّه في تشرين الأوّل 1945 بسيارة أجرة من صيدا إلى يافا في فلسطين، يركب القطار منها إلى القاهرة، ويتقدّم بطلب إلى "كلية الطب والقصر العيني" في مصر، لكن رُفِضَ طلبه، لاكتظاظها بوجود 150 طالباً من مصر وخارجها.
يذكر الدكتور عدنان أنّ الفضل في دخوله مع زميله إبراهيم شعيتو "كلية الطب"، كان لصدفة جمعتهما بالدكتورة زهية قدورة، التي كانت لها علاقات واسعة في مصر، فحملت قضيتهما إلى عميد الكلية الدكتور مصطفى سرور، حيث علا صراخها في مكتبه، قبل أنْ يقول لها العميد: "خلاص يا ستي.. حنقبلهم"، فخرجت لتزف لهما البشرى "فُرِجت.. فُرِجت".
نال الدكتور عدنان النوام البكالوريوس في الصحة العامة والجراحة في العام 1952، ثم أمضى عاماً بالتدريب في المستشفيات الحكومية في مصر.
لم تغرّه حوافز العمل خارج لبنان، فعاد في العام 1954 إلى مسقط رأسه صيدا، وافتتح عيادة في شارع الأوقاف، وسط المدينة، ما زالت إلى اليوم في مكانها، كانت أبوابها مفتوحة للجميع دون النظر إلى مستوى اجتماعي أو جنسية أو طائفة، متنقّلاً بين حارات المدينة والمناطق المجاورة، وصولاً إلى تعيينه طبيباً شرعياً في العام 1962، حيث توسّعت دائرة المهمة إلى مختلف مناطق الجنوب اللبناني.
في العام 1956 أصاب مدينة صيدا زلزال، ثم وقعت ثورة 1958، فعالج الدكتور عدنان إصابات الثوّار، فعُرِفَ بإسم "طبيب الثوّار".
تولّى مهام طبيب بلدية صيدا لمدّة 26 عاماً، وكذلك الأمن العام والدرك، ومسؤولية "مستوصف صيدا المركزي" و"مستشفى الراهبات" داخل صيدا القديمة لسنوات أربع، قبل إنشاء "مستشفى صيدا الحكومي" في عين الحلوة، حيث تولّى رئاسة الفروع الداخلية بين العامين 1957-1990، حين إحالته على التقاعد.
ساهم في تأسيس وتشجيع العديد من الجمعيات والمؤسّسات والأندية والمراكز الثقافية والاجتماعية والتربوية والطبية والرياضية، وتعميم ثقافة القراءة والمطالعة.
بقي قلبه معلّقاً بـ"المقاصد"، وترسّخت في ذاكرته صورة التفاني الجميلة، التي كان يقوم بها المتطوّعون من أجل "جمعية المقاصد"، فواكب نهضة "المقاصد"، وتولّى منصب أمين عام "جمعية خرّيجي المقاصد الإسلامية" في صيدا 1961-1963، ورئيساً للمجلس الإداري لـ"جمعية المقاصد" 1979-1985، حين صدور النظام الداخلي الجديد بإنشاء مجلس الأمناء، فكان أوّل رئيس له - أي رئيس "جمعية المقاصد" - في ولاية انتهت نيسان 1992 بعد إجراء انتخابات الرئيس التي فاز بها الدكتور مصطفى الزعتري.
بقي الدكتور عدنان النوام عميد رؤساء "جمعية المقاصد"، متواصلاً بالتعامل مع الجميع إلى حين رحيله.
عمل مع زملائه على تطوير "المقاصد"، فالدكتور عدنان مؤمن بأنّ "المقاصد" تُمثّل مدينة صيدا بأجمعها، لا فئة دون أخرى، ويجب أخذ العبر من التجارب الماضية، والاهتمام بمشاركة جميع الصيداويين في "مؤسّسة المقاصد" وقضاياها، بوصف "المقاصد" قمر صيدا".
قبل رحيل الدكتور عدنان النوام، كان محط تكريم في مناسبات عدّة. كما إطلاق بلدية صيدا برئاسة المهندس محمّد السعودي إسمه العام الماضي، على الشارع المتفرّع من شارع رياض الصلح في منطقة ساحة الشهداء نزولاً باتجاه "مدرسة الدوحة"، التابعة لـ"جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية".
رحم الله الراحل الدكتور عدنان النوام، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، فخسارة رحيله كبيرة، لكن أعماله ستبقى ناصعة البياض، وكما كان في حياته جامعاً للأطياف الصيداوية، تكرّس ذلك في تشييعه وتقبل التعازي في صيدا.

 

المصدر :اللواء