من اليوم، وحتى بداية الـ2017، لن يعود بمقدور أحد القضاة الاستماع إلى نعيم عبّاس، بعد أن اعتزلت محاميته فاديا شديد وكالته. المجرم المعروف بصراحته التي تصل إلى حدّ الوقاحة وببرودة أعصابه، لن يترك السّاحة خالية.
سريعاً، حلّ مكان «أبو اسماعيل المقدسي» خليفته في عالم الإرهاب والاعتراف بالإيمان به: عمر ميقاتي.
شابٌ قصير ونحيل، بايع تنظيم «داعش» وارتكب جريمة ذبح العسكريّ الشهيد علي السيّد المصوّرة وهو مقنّع، ومستعدّ أن يعيد ذبح أي شخص إذا ما طلب منه أميره في «داعش» ذلك، بعد أن أعلن من أمام قوس المحكمة العسكريّة في جلسة سابقة أنّه ليس نادماً على ذبح السيّد، فيما لم يستجوب، أمس، بهذه القضيّة بل كان الاستجواب والحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدّة 15 عاماً محصوراً بالانتماء إلى «داعش» وتجنيد مقاتلين.
هذا كلّ ما يعرف عن بلال ميقاتي. أمّا الباقي فهو مكتوب على أوراق مكدّسة كتبها المحقّقون يوم ألقي القبض عليه مع قريبه عمر ميقاتي وهما يحاولان الانتقال إلى الرقّة. في العادة، يتنصّل الموقوفون من هذه الاعترافات فور مثولهم أمام هيئة المحكمة. أمّا ميقاتي، فكان واحداً بين قلّة ممّن يضيفون عليها و «يعتزّون» بكلّ ما فعلوه.
وعليه، لا تبدو على «أبو عمر اللبنانيّ» علامات «استوحاش» الدّخول إلى المحكمة، بل على العكس من ذلك. ابن الـ21 عاماً، كان مستفزاً. رئيس «العسكريّة» العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم يتلو عليه التّهم المسندة إليه بانتمائه إلى «داعش» بهدف القيام بأعمالٍ إرهابيّة.. والشاب الواقف أمامه يضحك. وما إن انتهى ابراهيم حتى عاجله ميقاتي بالقول: «مزبوط».
ميقاتي: أحبّ «داعش»
بكلّ بساطة، أكّد الموقوف هذه التّهم وهو يضحك، مجاهراً أنّه «يحبّ الدّولة الإسلاميّة التي بايعها فور إعلانها وهي تحكم بالشريعة والسنّة وبما أنزل الله»!
وقف الشاب أمام هيئة المحكمة لأكثر من نصف ساعة، يجيب عن الأسئلة بلا مبالاة. لم يرتعب أو يتردّد، بل أكّد قبل ساعات قليلة من الحكم عليه أنّه إذا ما خرج من السّجن سوف يعود لـ«الجهاد مع الدولة». وذهب أبعد من ذلك، بتأكيده أنّه كان ينوي الذهاب إلى الرقّة لتنفيذ «عمليّة استشهاديّة» ضدّ النّظام السوريّ. كيف؟ «هم يفخّخون السيارة وأنا أقودها وأفجّر نفسي». لماذا؟ يبتسم «أبو عمر»، قبل أن يقول: «لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربّه».
يؤكّد الشاب العشريني أنّ لا أحد يقنعه، وإنّما هو مؤمن أنّ هذا ما يريده «في سبيل الله، وأنّ يعطيني الله 72 حوريّة. أتمنّى أن يعطيني إيّاهم كلّهم»! يضحك العميد ابراهيم ممازحاً: «نحن نعطيك إيّاهم»، ليردّ ميقاتي: «أعطوني إيّاهم»، قبل أن يشير إلى أنّ ذلك لن يغيّر رأيه في تنفيذ «عمليّة استشهاديّة».
بالنّسبة لميقاتي، فإنّ ما تفعله «داعش» هو عين الصواب. صحيح، أنّه لم يشارك في عمليّات قتل الأزيديين، وإنّما هذا كان جزاءهم «لأنّهم عبّادي شياطين، ويجب إبادتهم». وهذه أيضاً «العقوبة» الطبيعيّة لكلّ من لا يعبد الله، أي غير المسلمين. من هم غير المسلمين برأيه والذين يفترض قتلهم؟ «الشيعة والنصارى والنصيريين والدّروز والسنّة المؤيدين للطواغيت»!
أمّا الآية «وما أنزلناك إلّا رحمة للعالمين»، التي ردّدها العميد ابراهيم على مسامع «السفاّح»، فإنّها لا تفيد في تغيير معتقداته قيد أنملة. هو مؤمن أن هذه الآية يقصد بها الرّحمة في الدّعوة إلى الإسلام، وبعد ذلك لا مفرّ من القتل!
هكذا، يكان يتكلّم «أبو عمر» بـ «عفويّة مطلقة» أمام العشرات من الحاضرين المذهولين بما يقوله، ليعلن تأييده لقتل غالبيّة الموجودين داخل قاعة «المحكمة»، حتى يكاد لا يتبقّى غيره على قيد الحياة. يصدر فتاويه في القتل تماماً كما لو أنّه يتحدّث عن نزهةٍ سيقوم بها غداً..
ومثلما صدم الحاضرون، كانت الصّدمة أكبر على وجه وكيل الدّفاع عنه المحامي سعيد السوقي الذي حاول أن يخبئ ضحكته، حتى همس للعميد ابراهيم: «أنا درزي». سريعاً، استفاد رئيس «العسكريّة» من الأمر ليظهر للموقوف أنّ «محاميك الدرزي يدافع عنك ومن دون مقابل» على اعتبار أنّه مكلّف من نقابة المحامين، سائلاً إيّاه: «هل يستحقّ محاميك القتل أيضاً؟». لم تهتزّ شعرةً لميقاتي. وبقي على رأيه، مردّداً: «الله يهديه ويهدينا»، مشيراً إلى أنّه «إذا دافع أو لم يدافع مش فرقانة معي»!
لا يعتبر «أبو عمر» أنّ عمليّة توقيفه هي نتيجة حتميّة لكلّ ما ارتكبه على مدى أعوام، وإنّما هي ليست إلا «بلاءً من الله. وأنا لا يجب أن أكون في السّجن وإنّما في الرقّة، وتحديداً في مقرّ أمراء الاستشهاديين».
وقف ميقاتي بالأمس، كما لم يقف أحد مثله في «العسكريّة»، رافضاً الإجابة عن السؤال الاعتيادي الذي يُسأل للموقوفين قبل صدور الحكم عليهم: «ماذا تطلب؟». هو الوحيد الذي أكّد أنّه لا يطلب من المحكمة، وإنّما «أطلب من الله عزّ وجلّ فقط، وأشكو أمري له».
في المقابل، ظنّ كثيرون أن ميقاتي الماثل أمام المحكمة ببرودة أعصاب استعارها ربّما من زميله الإرهابي نعيم عباس، غير واعٍ لما يعترف به. ولكنّ الإجابة عن سؤال ابراهيم «كيف تعرف أنّ داعش يطبّق الشريعة الإسلاميّة»، أكّد للحاضرين أنّ «أبو عمر» مدرك لكلّ كلمة ينطق بها عن قناعة وإيمان بأفكار التنظيم الإرهابيّ.
ولذلك، عاد إلى الإمام الشّافعي عندما سُئل: «كيف تعرف أهل الحق في زمن الفتن؟»، وأجاب: «اتّبع سهام العدوّ فهي ترشدك إليهم».
«الذبح عاديّ»!
رسمت هذه الإجابة خلفيّة كافية عن الشاب المؤمن بأنّ «داعش» على حق. هو ابن البيت الذي صدّر حتى الآن 4 موقوفين بتهمٍ إرهابيّة وانتمائهم إلى «داعش». كان أوّلهم أحمد سليم ميقاتي الذي سجن على خلفيّة أحداث الضنيّة ليعود إلى سجن الريحانيّة منذ عامين بعد اعترافه بتواصله مع «داعش» واتّهامه بالتخطيط لإنشاء إمارة له في الشمال عبر عاصون، وابنه عمر الذي تمّ إلقاء القبض عليه برفقة بلال وهما في طريقهما إلى الرقّة (وشقيقه أبو بكر الذي قتل خلال أحداث جبل محسن وباب التبانة).
القاصر عمر لم ينف أيضاً الّتهم الموجّهة إليه بمبايعته لـ«الدّولة» واعترافه حتى اليوم في «العسكريّة» بجريمتي قتل ارتكبهما والعديد من الجرائم المماثلة التي اعترف بها في إفادته الأوليّة. ويضاف إليهم ابن شقيقة أحمد ميقاتي القاصر عيسى ع. المتهم بتكليفه بالقيام بعمليّة انتحاريّة داخل لبنان.
ينفي بلال أن يكون لابن عمّه أحمد تأثير عليه. هو الذي لم يتعرّف عليه إلا في السنتين الأخيرتين قبل توقيفه بسبب وجود «أبو الهدى» في السّجن.
ولكنّ منذ نعومة أظافره، شبّ على متابعة أخبار الشيشان، والتي تحوّلت إلى صورٍ ومقاطع فيديو مع انتشار الانترنت ودخول «القاعدة» إلى العراق ثمّ نشوء «الدولة الإسلامية في العراق والشام». اعجب بالأفكار المتطرّفة وبعمليّات الذبح التي «لا تدُرّس، وإنّما عادةً من السّنة، طبّقها القيادي أبو مصعب الزرقاوي». يختصر ابن الـ21 عاماً عمليّات الذبح التي نفّذ إحداها وهو يقول ضاحكاً: «عاديّة»، رافضاً الدّخول في تفاصيل ذبحه للعسكريّ علي السيّد، معلقّاً باستهزاء: «خليها لجولة (جلسة) ثانية»!
ترك ميقاتي المدرسة باكراً وانتقل إلى «معهد البخاري» (الذي بات اسمه يتكرر على ألسن الموقوفين بتهم إرهابية) «حيث يدرّس فيه غالبيّة المجاهدين المؤيدين للحكم في السعودية»، وفق ما قال، وليتخرّج منه بعد 4 أعوام متعمّقا في الشريعة الإسلاميّة.
وسريعاً، وجد «أبو عمر» ضالته في «جبهة النّصرة» التي التحق بها في حلب، حيث تلقّى على يد «أبو قتادة الألباني» دورتين عسكريتين في حرب التكتيك وحرب العصابات.
وهكذا انضمّ ميقاتي إلى «داعش» جاهزاً للقتال، وبايعها عبر أميرها في أعزاز السعوديّ أبو معاذ المكي، وذلك فور إعلان قيامها على لسان أبو بكر البغدادي، ليبدأ بمهمّة تجنيد لبنانيين وتسهيل إيصالهم إلى مقرّ «داعش» في جرابلس، قبل أن يعود إلى لبنان محاولاً الدّخول إلى الرقة حينما تمّ إلقاء القبض عليه.
مريض أو مؤمن؟
في الخلاصة، كانت جلسة ميقاتي أشبه بجلسة تثير الكثير من الريبة والذهول، ودفعت ببعض الحاضرين إلى الوقوف ليتّسنى لهم النّظر جيّداً إلى ملامح وجه إرهابي يعيش معهم على الأرض نفسها. كيف يشعر وهو يقول كلّ ذلك؟ لا أحد يعلم، وإن كانت الإجابة واضحة كعين الشمس، ويمكن الوصول إليها عبر التأمّل بابتسامةٍ ترسم على ثغر الشاب الأسمر كلّما لاحت في باله فكرة القتل وردّدها على الملأ!
أمّا العميد ابراهيم ومعه ممثل النيابة العامّة القاضي داني الزعني، فكانا يحاولان توجيه المزيد من الأسئلة إلى الموقوف ولو من خارج هذا الملفّ، علّهم بذلك يكتشفون جزءاً من طريقة تفكيره.
ولذلك، فقد تحدّث الزعني في مرافعته الذي طلب فيها تطبيق مواد الاّتهام، عن الحالة الذهنيّة لبعض الموقوفين الذين يجنحون عن الوعي والإدراك. في حين اعترض ابراهيم الذي رأى أنّ طريقة حديث ميقاتي وتوسّعه في الشريعة يؤكّدان أنّه بكامل قواه العقليّة ويتحدّث عن قناعة، رافضاً تدخّل المحامي محمّد صبلوح (وكيل ميقاتي في ملفّات أخرى) بعرضه على طبيب مختصّ، تماماً كما رفض ميقاتي الأمر مؤكّداً أنّ لا مشكلة لديه وأنّه بكامل قواه العقليّة.