الثلاثاء 28 أيار 2019 11:43 ص

"أزمة ثقة" بين وزير المال والجيش !


خرجت "موازنة رمضان" بسلسلة إجراءات تقشفية غير مسبوقة في سجل إعداد الموازنات منذ اتفاق الطائف. لكن لا شك أن "صيام" القوى السياسية عن الهدر المنظم الذي طبع أداء الطبقة الحاكمة لعقود لم يصل الى حدّ إزالة الهواجس والشكوك بأن كل ما أنجز على صعيد "التشطيب" من موازنات الوزارات والمؤسسات والنفقات وتعزيز منابع الواردات قد أتى على حساب جيب المواطن وحقوقه المكتسبة. لا يتوقف الأمر هنا. يشكّل نموذج الوزير علي حسن خليل مثالاً فاضحاً عن سياسة "التضليل". رجل الأرقام لا يزال على رأيه منذ الجلسة الأولى حتى الجلسة رقم 20: لا مسّ برواتب العسكر. على الورقة والقلم يقولها العسكر المتقاعد ومن هو في الخدمة الفعلية كما هي: "أنت كذبت علينا"!

عملياً، تعكس أزمة حقوق العسكر وأسلوب تعاطي الحكومة معها أحد أوجه التخبّط في "نيو" إدارة المال العام. للمرة الأولى منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية يتّجه "شارع غاضب" صوب مفرق القصر الجمهوري للتظاهر ورفع الصوت. ولن يكون مجرد تفصيل بأن العسكريين المتقاعدين مع أهاليهم، وأهالي من همّ في الخدمة الفعلية، يقودون هذا التحرّك.


ستستقيم الصورة أكثر، في إلتباساتها، مع عدم صرف المبالغ اللازمة من وزارة المال للجيش منذ أشهر لتأمين مدفوعات التغذية والصيانة بسبب قرار الوزير علي حسن خليل في 22 آذار الماضي والذي تضمّن تبليغ جميع مراقبي عقد النفقات ضرورة وقف الحجز كليا لمختلف أنواع الإنفاق باستثناء الرواتب و​الأجور​ وتعويض النقل المؤقت. برّر يومها القرار بأنه إداري محض له علاقة بحجز النفقات بالتزامن مع إعداد الموازنة، ولا يشمل أي استثناءات.

حجز النفقات لمؤسسة كالجيش اللبناني تضمّ 80 الف عسكري، لا يجوز مقارنته مثلاً بحجز نفقات وزارة الاشغال أو أي مؤسسة أخرى... الأمر له تداعياته السلبية على عمل الجيش، في الوقت الذي تخوض فيه المؤسسة العسكرية، معركتها الكبرى لحفظ حقوق عسكرييها.

وقد ردّ وزير المال علي حسن خليل بعيد إنتهاء جلسة مجلس الوزراء على مسألة النفقات العائدة للجيش بالقول "تمّ اقرار قانون البرنامج كما أعدته وزارة الدفاع ووافقت عليه قيادة الجيش. ولم تسحب اي ليرة منه. أما الاموال التي أجّلت للسنوات المقبلة في قانون البرنامج فالسبب يعود الى أن هناك مبالغ مدوّرة من السنة الماضية ولم تنفق، وبالامكان إنفاقها هذه السنة. وفي قانون البرنامج هناك مادة تقول بأن يمكن عقد كامل مبالغ القانون حتى دون توفر الاعتمادات".

تقول مصار عسكرية في هذا السياق "هذا جيش، أي أمن ومنظومة عمل متكاملة تبدأ من أمن اللبنانيين لتصل الى التغذية والصيانة. لقد دفعنا الامتناع عن صرف المال الى اتخاذ تدابير احترازية استباقاً لأي طارى ممكن أن يحصل. فمثلاً تمّ الاستغناء عن تسيير درويات وعدم تحريك آليات معينة، حتى نكون في الجهوزية المطلوبة اذا استدعى الأمر تدخلاً طارئاً وسريعاً من قبلنا".

المشهد أمام القصر الجمهوري أمس كان بالغ الدلالات وتقصّد مخاطبة رئيس الجمهورية مباشرة، من قبل العسكريين المتقاعدين، حَمَل رسالة أساسية: التعويل الأول والأخير على قائد الجيش السابق، الخبير "المحلّف" في شؤون المؤسسة العسكرية والعالم الأول بتركيبتها وحاجاتها ومسار ومصير رواتب عسكرييها وضباطها الذين ظلمتهم سلسلة الرتب والرواتب.

ووفق المعلومات، التناغم بين قيادة الجيش ورئيس الجمهورية كان حاضراً منذ بداية التفاوض حول طاولة مجلس الوزراء بالتنسيق مع وزير الدفاع الياس بو صعب. أما الوزير جبران باسيل فعمل على "موجة" مختلفة ساوى فيها الجيش مع كافة الادارات والمؤسسات الأخرى المطلوب منها الحدّ الأقصى من التقشف من دون الأخذ بالاعتبار واقع الجيش ومتطلباته ودوره في منظومة الأمن، الأمر الذي كبّر رقعة الاستياء من مقاربة باسيل لهذه القضية المحورية.

ولعل "العقل الضرائبي" الذي تحكّم بمفاصل إعداد الموازنة وحرص الحكومة على عدم إحداث خضة كبيرة في المنابع الأساسية لهدر المال العام، هما من العوامل التي دفعت قيادة الجيش الى الذهاب بعيداً في معركتها ورفع السقف مع رفضها ل "الحسومات" التي طالت التقديمات والتعويضات والتي هي بقاموس أهل العسكر: تعويضات ومخصصات بديهية عن عدم إعطاء العسكريين حقوقهم كاملة في ما يخص رواتبهم.

بمطلق الأحوال، لم يقد رهان العسكريين المتقاعدين ومن خلفهم العسكر في الخدمة الفعلية، على رئيس الجمهورية الى "تغيير المكتوب". فالموازنة، بأرقامها العسكرية، أقرّت في بعبدا كما وصلت من السراي الحكومي من دون تعديل أي رقم فيها، ومن دون أن يرفع الرئيس عون الصوت أجل "تحصيل" الحقوق التي طارت بشحطة قلم. المعركة ستنتقل في جولتها الثانية، وبحماوة أكبر، الى مجلس النواب، لكن مطلعين يؤكدون أن أرقام وزارة الدفاع والتخفيضات التي لحظت في الموازنة ستبقى على ما هي عليه، مع فتح نقاش بشكل أوسع حول فرض ضريبة الدخل على معاشات التقاعد ووقف التسريح المبكر.

لكن ما يجدر التوقف عنده كلام الوزير خليل بعيد إختتام النقاش حول الموازنة في مجلس الوزراء بأن "الشائعات التي أطلقت حول المسّ برواتب وتعويضات العسكريين الحاليين والمتقاعيدن غير صحيحة". وزير المال، برأي متابعين، لا يتوقف عن التضليل وقول عكس الأمور. الردّ على خليل أتى سريعاً وبالأرقام ضمن إطار كشف "الخطة التمويهية" التي اعتمدها منذ البداية. فبعد التخفيضات التي أقرّت في الموازنة سيخسر الضابط شهرياً بين 400 الف الى 600 الف شهرياً، والعسكري بين 200 الف الى 400 الف بحسب الراتب.

مثال على ذلك، ضابط قائد (مع ولدين) راتبه 2 مليون و900 الف ليرة، مع انتقالات (وفقاً للتدبير رقم 2): 69 الف و800 ليرة.
طبابة 3%: 89 الف و700 ليرة.
مدارس 15%: 216 الف (قسط متوسط وليس جامعي).
محروقات: 125 الف
المجموع المحسوم: 500 الف و500 ليرة شهرياً. يضاف اليها الحسومات على تعويض نهاية الخدمة.

وفي سياق "التمريك" الواضح كان لافتاً إشارة وزير المال في ما يخص التدبير الرقم 3 "منذ البداية اقتراح وزارة المال قام على أساس تكليف الحكومة إعادة النظر بتطبيق التدابير الاستثنائية... واليوم بعد 20 جلسة سمعناهم يقولون بأن هذه مسألة تناقش في المجلس ثم تحال الى الحكومة لصدور مراسيم توزيع القوى العسكرية على التدابير رقم 1 و2 و3".

وتؤكد مصادر عسكرية رفضها لسلسلة التخفيضات التي طالت حقوق العسكريين ومنها 10% على بند التغذية المتدنية قيمتها أصلاً والبالغة 5650 ليرة (تغذية عسكري في اليوم الواحد) لتصبح بعد التخفيض 3500 ليرة، أكثر من 22% على الصيانة، بنزين ومازوت 28%، 15% مدارس، طبابة 3%، نفقات سرية 16%، 50% مناسبات واحتفالات واعياد (أكاليل الورد من ضمنها)، تجهيزات وذخائر 40%، مختلف (حالات وفاة، مكافآت) 33%... وطال التخفيض الأكبر بند الانشاءات حيث وصل الى 73%، مع العلم أن تأجيل التلزيمات وتجميد بعض المنشأت وعمليات الترميم هي من ضمن سلّة التقشف على طاولة قيادة الجيش.

وتذكّر المصادر العسكرية أنه منذ التسعينيات كانت قيادة الجيش تعيد الى الخزينة الوفر المتبقي من الاعتماد المرصود لها، وبأن كافة التقديمات المشمولة بالراتب، بما فيها بونات البنزين، لها مبرراتها، مع العلم أن التخفيض الذي طال المحروقات تشكّل قسائم البنزين الموزعة على الضباط 10% فقط من مجمل المبالغ التي تصرف على الآليات العسكرية... وتتساءل المصادر العسكرية "هلّ فكّر أولياء الموازنة بأنفسهم حين أقروا التخفيض على المحروقات واحتمال عدم تمكنهم من التنقل بالطوافات العسكرية عند الحاجة لها؟!".

وعكست كلمة قائد الجيش العماد جوزف عون في أمر اليوم بمناسبة "عيد التحرير" الواقع الاعتراضي للمؤسسة العسكرية على ما يحصل على طاولة مجلس الوزراء بحديثه عن "ندرة الوفاء والتضحية بالوطن" و"ما تتعرّض له المؤسسة العسكرية من تنكّر للوعود".

ومع التخفيض الذي طال التجهيزات والذخائر بنسبة 40% فإن هذا الأمر سيقود تلقائياً الى التقشف في شراء الجيش ذخائر ومعدات لا يؤمّنها عادة الجانب الاميركي من خلال برنامجه التسلحي لدعم الجيش اللبناني، فيما لم يفسّر في اليرزة مدّ اليدّ الى أكالييل الورد والمكآفات سوى على أنه مسّ بمعنويات العسكر. وتقول المصادر العسكرية في هذا السياق "لم تعد القصة قصة أرقام، بل كرامات ومسّ بالمعنويات. ما يحصل معيب بحق المؤسسة العسكرية التي قدمت الكثير من التضحيات".

المصدر :ليبانون ديبايت- كارلا الزين