العلامة السيد محمد حسن الأمين
إنّ أوّل ما يجول في ذهني ونحن نشهد هذه الدرجة النادرة من التفاقم الدموي على مستوى جزء أساسي وكبير من المنطقة العربية، وحتى على مستوى بعض الدول الغربية، أول ما يجول في ذهني هو أن هذه الظاهرة الإستثنائية لا تخضع للاعتبارات والتحليلات الشائعة التي تحاول أن تفسر نشوء هذه الظاهرة واتساعها وتفاقمها.
ولا أستطيع أن أقتنع بأن هذه الظاهرة هي مجرد ظاهرة إرهابية نشأت فجأة وبدون عوامل وأسباب ومقدمات وأشكال متعددة من تراكم الاحتقانات التي يجب اعتبارها الوسيلة المنطقية لفهم هذه الظاهرة.
وأستطيع القول بأن النزعة السياسية السائدة على مستوى منطقتنا وعلى مستوى العالم بصورة عامة، هي محاولة للهروب من مواجهة عوامل وأسباب أعمق تكمن وراء نشوء هذه الظاهرة وتفاقمها.
وقبل الدخول في تحليل هذه الظاهرة أود أن أشير إلى نقطة جوهرية تلقي الضوء على المنطق الذي يستخدمه الغرب عامة، والذي يختصره بأن ما يجري ليس سوى فورة إرهابية، وأن أسباب هذه الفورة هي أسباب دينية صرف، إذ أن أول ما يخطر في البال أمام منطق كهذا هو السؤال الذي نوجهه للغرب بالقول: إن الدين لم يوجد في هذا المقطع الزمني الذي نعيشه بما فيه الدين الإسلامي، وأن المراحل الزمنية السابقة كلها كان الدين فيها له حضوره في المجتمعات وفي المجتمعات الإسلامية خصوصاً فلماذا لم يطلق هذا الدين مثل هذه الظاهرات الإرهابية في الأزمنة الماضية على النحو الذي يطلقه في هذه المرحلة الراهنة؟!!
إذن، فإن الغرب يريد أن يغيب الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة لأن البحث الجدي عن نشوئها سوف يكشف أن الدين بذاته لا يمكن أن يكون مصدراً لمثل هذه الأشكال من الإرهاب التي نواجهها اليوم..
وصولاً إلى أن نسجل قناعتنا بأن الطبيعة الجوهرية لهذه الظاهرة - وإن كانت تتخذ لبوس الدين شعارا لها - فإنها في جوهرها ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وأصلب ما تستند إليه هو غياب العدالة التي تبدو أنها القيمة التي تكاد تكون مفقودة سواء في علاقة دول العالم بعضها ببعضها الآخر أو في داخل الدول وخاصة منها الدول في العالم الثالث، حيث تكاد العدالة الاجتماعية تكون مفقودة بالكامل.
وهنا أود أن لا أتجاهل أن نسبة العدالة الاجتماعية في الاجتماع الغربي - الأوروبي والأميركي - وإن كانت متميزة وحاضرة بدرجة مقبولة إلا أن دور الغرب في تكريس تغييب العدالة في دول العالم الثالث هو دور واضح ولا شبهة فيه، وإذا كان الغرب - كان ووربما لا يزال - يعتقد أن الخلل في مبادئ العدالة خارج مجتمعاته لا ضرر منه على مجتمعات الغرب نفسه، فإن هذا الإعتقاد كان اعتقادا خاطئاً وها هو يكشف الآن وبوضوح كامل أن غياب العدالة في دول العالم الثالث لن تقتصر سلبياته ونتائجه على هذه الدول فحسب، بل سوف تتعداها لتصيب الاجتماع الغربي نفسه، وأوضح مثل على ذلك هو هذا القلق العميق الذي بدأت تشعر به حكومات الغرب وشعوبه، من التداعيات الخطيرة التي بدأت تصيب الغرب والتي تتجلى حتى الآن في صورتين واضحتين ومباشرتين هما: عجز الغرب عن مواجهة الهجرة التي أنتجتها الحروب في المنطقة العربية والإسلامية، الهجرة نحو الغرب. والظاهرة الثانية هي أن الغرب نفسه لم يعد بمأمن من عمليات التفجير التي ذاق مرارتها، وهو في قلق أشد من توسع مثل هذه العمليات مضطراً لصرف المليارات لتعزيز عناصر الأمن في مدنه ومؤسساته خوفاً من هذه التفجيرات، والتي لن تمنعها من وجهة نظرنا مثل هذه التعزيزات، فهو إذن - أي الغرب - أمام أزمة حقيقية.
الجديد الذي أريد أن أستنتجه إستناداً إلى معرفتنا بطبيعة السياسة والفكر الغربي والطابع البراغماتي والذرائعي لهذه السياسة هو أن الغرب سيذهب إلى ما لا يمكن أن يتوقعه الكثيرون، وسيفاجئ حلفاءه في المنطقة العربية والإسلامية بأنه سيعمد إلى الوسيلة المنسجمة مع طبيعته، أي سيعمد إلى الإعتراف بما نسميه الفصائل الإرهابية، وربما إلى مفاوضتها ومساعدتها على تحقيق أهدافها في إقامة ما يسمى بدولة الخلافة، فبماذا سيتضرر الغرب اذا تمكنت داعش من إقامة دولة إسلامية، وكانت هذه الدولة مستعدة لأن تقيم مع الغرب علاقات سليمة !!
ونزيد قناعة في هذا الأمر أن كل الحروب المحلية التي تحاول أن تقتلع حركة داعش والنصرة والقاعدة وما يماثلها لم تستطع أن تحقق ما تهدف إليه بل نلاحظ أن هذه الحركات ازدادت عنفا وإصرارا ومضيا في ممارسة إرهابها.
لم أصل إلى هذا التوقع إيماناً مني بأن هذه الحركات الإرهابية هي رد الفعل المشروع اتجاه أنظمة الاستبداد واللاعدالة في المنطقة، بل أردت أن أقول أن هذه الحركات الإرهابية استفادت وتستفيد من نقمة شعوب المنطقة على أنظمتها، ومن عجز هذه الشعوب عن تغييرها، أما إذا تحقق ما توقعته من أن الغرب سيساعد هذه التنظيمات على قيام دولة يحكمونها فإنني لا أعتقد أن مثل هذه الدولة ستكون أفضل حالا من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة التي تحكم معظم العالم العربي والإسلامي.
وإذا كان لي من نصيحة أتوجه بها إلى ساسة الغرب فهي: نصيحتي أن يعمل الغرب من موقع قدرته وإمكاناته على مساعدة المنطقة العربية بصورة خاصة على تحريرها من أنظمة الفساد، وتمكينها من استثمار ثرواتها، وتمكينها أيضا من تحقيق العدالة في استثمار هذه الثروات، وفي التخلي عن الأطماع الغربية في هذه الثروات التي تستعين في نهبها عن طريق الأنظمة الفاسدة التي تستمد - أي هذه الأنظمة الفاسدة - معظم عناصر قوتها واستبدادها من مساندة الغرب لها.