الثلاثاء 11 أيار 2021 07:12 ص

البابا القدّيس يوحنّا ولبنان (2): سرّ علاقته بالمسلمين


* محمد السماك

 في عام 1964 أصبح جوزف فوجيتيلا رئيس أساقفة مدينة كراكوف. وربّما يكون قد سمع بالإسلام هناك للمرّة الأولى. ذلك أنّه ليس بعيداً من موقع الكاتدرائية، التي أقام فيها واتّخذها مركزاً لمهمّته الكهنوتية، يقوم جدار مرتفع يطلّ على وادٍ فسيح وصل إليه العثمانيون أثناء تمدّدهم في أوروبا، وأقاموا فيه معسكراً لهم. وفي المساء عندما يحين وقت الصلاة، كان المؤذّن التركي يرفع الصوت "الله أكبر، حيّا على الصلاة". فيعتقد البولونيون أنّ عبارة ألله أكبر هي دعوة للهجوم، فيطلقون النفير فوق الجدار استعداداً للمواجهة. هذا التقليد بقي مستمرّاً لعقود طويلة.

البابا يوحنا بولس الثاني هو ابن هذه البيئة، ولكنّه هو الذي أعطى الإذن ببناء أول مسجد في روما. وهو الذي طلب من بلدية المدينة أن تقدّم الأرض هدية لمجلس سفراء الدول الإسلامية في إيطاليا لبناء المسجد والمركز الثقافي الإسلامي. وهو ثاني بابا يصف المسلمين بـ"الأخوة"، بعد البابا بولس السادس، وذلك في ضوء مقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني (نوسترا إيتاتي).

حدث ذلك أثناء زيارة البابا يوحنا بولس الثاني للفيليبين في عام 1981. يومئذٍ قال: "إنّني أتوجّه إليكم كأخوة، وأنا أعني ما أقول، لأنّ ذلك هو ما نحن عليه. فنحن أخوة في الله، الذي خلقنا والذي نسعى إلى الوصول إليه عبر الإيمان والصلاة والعبادة، وعبر الالتزام بشرعيّته، والاستسلام لمشيئته".

ولقد عكست وثيقة الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان"، مدى إيمانه بجدوى وأهميّة الحوار المسيحي – الإسلامي، وبمركزيّة دور لبنان في هذا الحوار. وهو الدور الذي صرفتنا صراعاتنا الداخلية العبثية عن القيام به، وعن حمل رسالته إلى الدول العربية الشقيقة. ولو نجحنا في أداء دور الرسالة التي تتماهى مع كياننا، لكنّا وفّرنا على دول المنطقة وعلى أنفسنا مواجهة موجة التسونامي العاتية من التطرّف والإرهاب، التي اجتاحت المنطقة وكادت تقتلع جذور الأخوّة والمواطنة بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد.

لم يتأثّر البابا بمحاولة الاغتيال التي تعرّض لها على يد عميل تركي للاستخبارات البلغارية في العهد السوفياتي السابق. كان يعرف أن لا تركيّة المجرم ولا إسلامه لهما علاقة بالأمر، وأنّ الجريمة كانت تستهدفه لأنّه كان معادياً للشيوعية، ومحرّضاً لبولندة على التضامن الوطني في  مواجهتها. حتى إنّه عندما زار وارسو بعد اعتلائه السدّة البابويّة في عام 1979، ودعا إلى التضامن في وجه الشيوعية، خرج إلى شوارع المدينة وميادينها أكثر من مليون بولندي لاستقباله. وبعد أسابيع قليلة، انطلقت حركة التحرير من مدينة غدانسك في شمال بولندة، وحقّقت المعجزة بطيّ صفحة الحكم الشيوعي.

في عام 1986 دعا إلى أول مؤتمر عالمي ضمّ ممثّلين عن الأديان الإبراهيمية الثلاثة، والعقائد العديدة الأخرى في العالم كلّه. لا أعرف مؤتمراً جامعاً سابقاً له. ومن على منبر ذلك المؤتمر، أطلق نداءه إلى الإنسانية بأنّ "إحلال النظام الأدبي والاجتماعي المنكسر يقتضي بالضرورة تفاعلاً بين العدل والغفران، لأنّ أسس السلام الحقيقي تكمن في العدل، وفي ذلك الشكل الخاص للمحبّة، أي الغفران". ونقل البابا عن النبي أشعيا قوله: "إنّ السلام في الواقع هو عمل عدل".

وقد تعمّد البابا عقد هذا المؤتمر في أسيزي، مرقد القديس فرنسيس. فالقديس فرنسيس لم يكن قديس الفقراء والمساكين فقط، بل كان قدّيس الحوار الإسلامي – المسيحي أيضاً. ومن حسن الحظ أنّ الهدايا الإسلامية التي قدّمها له الملك العادل (ابن أخ صلاح الدين الأيوبي) تقديراً له واحتراماً، لا تزال محفوظة في غرف زجاجية حول نعشه حتّى اليوم.

ويبدو أن البابا يوحنا بولس الثاني لم يكن البابا الوحيد الذي تأثّر بذاك القديس الكبير. فالبابا الحالي ذهب في تأثّره به إلى حدّ أنّه قرّر أن يحمل اسمه. وربّما تجيب هذه الخلفيّة عن الأسئلة حول "وثيقة الأخوّة الإنسانية"، التي وقّعها مع إمام الأزهر الشريف الشيخ أحمد الطيّب في أبو ظبي عام 2019.

إنّ قصّة القديس فرنسيس مع المسلمين، والحوار الديني الذي أجراه مع عدد من علمائهم في مصر أثناء الحملات الصليبية، لا تزال مصدر إلهام لنا حتّى اليوم. فإذا كان الحوار ممكناً أثناء الحرب وفي ظل السلاح، فلماذا لا يكون في ظلّ المواطنة والأمّة الواحدة، بل والأسرة الواحدة؟

منذ صدور وثيقة "نوسترا إيتاتي"، في عام 1965، عن المجمّع الفاتيكاني الثاني، فُتح ملفّ الحوار المسيحي الإسلامي على أوسع مدى. فقد أرسى المجمّع، بالقرارات التي اتّخذها، قاعدة انفتاحية جديدة لبناء علاقات سليمة وصحيحة تقوم على أساس الاعتراف بالأديان واحترامها. حتى إنّ الفقرة الـ16 من نصّLumen Gengium  تقول إنّ "الخلاص يشمل أيضاً أولئك الذين يؤمنون بالله، وفي مقدّم هؤلاء المسلمون الذين يؤمنون بالعقيدة الإبراهيمية ويعبدون معنا الله الواحد الرحمن الذي سوف يحكم بين الناس يوم القيامة"، وهو ما تردّده أيضاً الفقرة الثالثة من وثيقة "Nostra Aetate". فنحن جميعاً مؤمنون بإله واحد، كلٌّ على طريقته ومنهجه، أو كما يقول الإسلام: "لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً".

في جامعة الدول العربية 20 عضواً بعضهم نسور، وبعضهم طيور. ولكن بينهم فراشة واحدة. إنّ الطيور شأنها شأن بقية الكائنات الحيّة، تولد حرارتها من داخلها لإنتاج ما تحتاج إليه من طاقة. الفراشة وحدها، بخلاف سائر الطيور الأخرى، تعتمد للحصول على الطاقة على مصادر خارجية، وخصوصاً الطاقة الشمسية. غير أنّ أجنحة الفراشة رقيقة للغاية وتعلوها قشرة رقيقة جداً من البروتينات. لذلك لا تستطيع أن تساهم إلا بقدر ضئيل جداً في إنتاج الحرارة اللازمة. فأجنحتها سريعة التأثّر بالحرارة وبالبرودة. ولذلك لا تنتج سوى القليل جداً من الطاقة الذاتية.

إنّ لبنان هو الفراشة بين هذه المجموعة من النسور والطيور العربية (والمستعرِبة). يمكن نتف بعض الريش من أجنحة الطير، ولكنّه يبقى حيّاً وقادراً على التحليق. فريشة الطير كائن ميت، مثل شعر الإنسان. ولكن نتف أجنحة الفراشة يقضي عليها. ذلك أنّ في جناحها حياة لا توجد في ريش الطيور الأخرى. وإذا كانت أجنحة الطيور مصدر قوّتها، فإنّ أجنحة الفراشة مصدرُ جمالها.. وخصوصيّتها.

البابا يوحنا بولس الثاني كان يرى لبنان فراشة بين الطيور العربية، تحمل لقاح الحياة والحبّ من زهرة إلى زهرة، ومن دولة إلى دولة.

تستطيع الطيور أن تعيش من دون أجنحة إلا الفراشة. وتستطيع كل الطيور أن تعيد إنماء أجنحتها إلا الفراشة، فإذا خسرت جناحها تصبح مثل لبنان إذا خسر رسالته.

المصدر :أساس ميديا