الثلاثاء 11 أيار 2021 12:10 م

"البالة" ليست لجميع الفقراء.. كيف قلب الانهيار نمط استهلاك اللبنانيين؟


* جنى الدهيبي

عند جسر نهر "أبو علي" في طرابلس شمال لبنان، تنبش دلال (37 عاما) في بسطات "البالة" (سوق الألبسة المستعملة) على ثياب مناسبة لأطفالها، ثم تفضّ يديها يائسة "لأن العتيق مثل الجديد غير مقدور عليه" وفق تعبيرها.

جاءت دلال من جرود عكار لشراء حاجات عائلتها قبيل عيد الفطر، وفي جيبها 150 ألف ليرة فقط (توازي نحو 12 دولارا) وتعبر عن دهشتها من ارتفاع أسعار الألبسة والأحذية المستعملة. قالت للجزيرة نت "كنت أشتري القطعة الواحدة منها بـ 5 آلاف ليرة، لكنني وجدت سعر السروال 50 ألف ليرة، بينما مدخولنا الشهري البالغ 700 ألف ليرة (نحو 55 دولارا) لا يكفينا للأكل والشرب".

توافقها عاهدة قانون (62 عاما) التي قالت "الأعياد صارت مناسبة للغصة وشعورنا بالعجز والحرمان الشديدين" وتشكو من دفعها للبحث عن هدايا العيد لأحفادها على بسطات بضائع مستعملة، من دون أن تقوى على دفع ثمنها.

تحولات طارئة

يحل عيد الفطر، مع بدء العد العكسي لعملية رفع الدعم عن السلع الأساسية المستوردة (كالمواد الغذائية والمحروقات والأدوية) الذي توفره الحكومة عبر مصرف لبنان، بحجة استنزاف ما لدى الأخير من احتياطي بالعملات الصعبة.

ويترقب اللبنانيون قفز الأسعار لمستويات لا سقف لها بعد رفع الدعم، وتجاوز سعر صرف الدولار الواحد بالسوق السوداء الذي يتحكم بقيمة العملة الوطنية 12 ألفا و700 ليرة (سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة).

هذه التحولات الطارئة على نمط عيش اللبنانيين -بعد أن صار أكثر من نصفهم فقراء وفقا للتقديرات الدولية- دفعت كثيرين للبحث عن سبل بديلة للتكيف مع أزمتهم التاريخية، ولعل لجوء ما صار يُعرف بـ "فقراء لبنان الجدد" إلى أسواق البالة، هو أحد الأدلة الدامغة على ذلك.

ومن بين هؤلاء، كانت منى الأطرش (37 عاما) تجول متحمسة في بالات طرابلس، وتحمل بيديها أكياسا كثيرة، بعد أن وجدت طلبها من الأحذية الطبية والجلد الطبيعي وألبسة الماركات العالمية التي تحبها، وتقول للجزيرة نت إن "البالة" صارت ملجأها بعد أن فقدت قدرتها على دخول متاجر الماركات الأجنبية.

وأضافت أنها اكتشفت جودة البضائع المستعملة بعد الأزمة، وأن "البالة ليست للتوفير، وإنما لاختيار النوعية الأفضل التي لا نجدها في متاجر تعرض بضائع خفيفة بأثمان باهظة".

لبنانيون وسوريون

فعليا، استعادت أسواق البالة زخمها ونشاطها بعد الأزمة الاقتصادية، رغم شكاوى العاملين فيها. وتاريخيا، تعود ظاهرة انتشار البالات إلى ما قبل الحرب الأهلية عام 1975، وتعتبر طرابلس من أقدم المدن اللبنانية في هذا المجال، إذ بدأت تنتشر بالاتها في خمسينيات القرن الماضي، وفق ما يشير بعض التجار العاملين فيها.

ومنذ عام 2007، توسعت بالات طرابلس، تزامنا مع تنفيذ "مشروع الإرث الثقافي" الذي أقرته بلدية طرابلس بكلفة ناهزت 45 مليون دولار، وجرى على إثره سقف مساحة كبيرة من نهر "أبو علي". وقد أثار المشروع سجالات كثيرة في المدينة على قاعدة أنه يساهم في تشويه النهر بدل تأهيله.

وخلافا لأهداف المشروع، يوجد حاليا على سقف نهر "أبو علي" نحو 280 بسطة للألبسة والأحذية، بحسب أرقام بلدية طرابلس، ناهيك عن عشرات محلات البالة المنتشرة حوله، ويشغلها مئات العمال اللبنانيين ومن اللاجئين السوريين.

وعلى الجسر أيضا، تتراكم أطنان من الألبسة والأحذية المستعملة، يوضع بعضها في مستوعبات خشبية أو حديدية، وبعضها الآخر معلق على الجدران أو يتدلى من سقوف خيم النايلون.

وهنا، يشير السوري محمد عبد الرحمن (23 عاما) -الذي لجأ إلى لبنان قبل 4 سنوات إلى أن انهيار الليرة ساوى بين اللبنانيين والسوريين بفقرهم وحرمانهم "إذ يأتي العيد وهم عاجزون عن شراء قميص مستعمل ارتفع سعره من 10 آلاف ليرة إلى 50 ألفا".

وأمام 3 متاجر كبيرة لبيع الأحذية المستعملة بطرابلس، يشير محمد الكلاس، وهو صاحب شركة "كلتيكس" لاستيراد البضائع المستعملة، ويعمل منذ نهاية السبعينيات، إلى أن الاستيراد ما زال مستمرا من جميع أنحاء العالم، وتحديدا أوروبا وأميركا وقبرص وتركيا وحتى أستراليا، لكن القطاع أصبح مأزوما بعد انهيار الليرة.

ويشتري تجار "البالة" بضائعهم بالكيلوغرام، ويتراوح سعره بين نصف دولار و20 دولارا، حسب نوعية البضائع، وأغلاها ثمنا تكون تلك المصنفة من فئة "الكريم" أي الأقرب للبضائع الجديدة، وفق الكلاس.

ويعطي الكلاس مثلا عن الخسائر التي يتكبدها تجار "البالة"، بعد أن تراجعت أرباحهم إلى حدودها الدنيا، فـ "الحذاء الأوروبي من الجلد الطبيعي الذي نبيعه بـ 50 دولارا، كان قبل الأزمة ثمنه نحو 75 ألف ليرة". أما اليوم، فصارت 50 دولارا توازي أكثر من 630 ألف ليرة، أي تلامس الحد الأدنى للأجور (650 ألفا) "لكننا نضطر لبيعه بأقل من ذلك، كي لا نخسر زبائننا الذين لم يتقبلوا الأسعار الجديدة بعد".

من جهته، يشير التاجر عمر أبو الحاف، الذي يعمل بالبالة منذ 31 عاما، أن هذا السوق تبدلت أحواله رأسا على عقب، لكن تعويل التجار لم يعد على من يعيشون فقرا مدقعا -وفقه- بل أصبح على الطبقة الوسطى التي تهاوت قدرتها الشرائية، وصارت البالة ملجأها البديل، وقد يعثرون على طلبهم بعد تأهيل البضائع وتنظيفها.

وفي رحلة حول العالم، تعبر بضائع البالات من مراكز جمعها وتوضيبها، ثم مراكز تصديرها بالدول الأوروبية والأجنبية، إلى المستوردين والموزعين وتجار الجملة والمفرق، لتصل إلى المستهلكين. ومن خلالها، تسعى المنظمات غير الحكومية وشركات النسيج والشحن والتجار إلى الاستفادة من دورة البضائع المستعملة، لتحقيق الأرباح المالية.

واقع البالات

وفي السياق، يلفت محمد شمس الدين، الباحث في "الدولية للمعلومات"، أن لبنان توقف عن استيراد بضائع البالة في سبتمبر/أيلول 2004 بقرار من مجلس الوزراء، بسبب مضاربتها على البضائع المصنوعة محليا، ثم تراجع عن قراره في أبريل/نيسان 2009.

السنوات الماضية، انتشرت ظاهرة تهريب البالة إلى سوريا، كما لجأ بعض التجار لإدخال البضائع الجديدة تحت تسمية "البالة" لأن رسومها الجمركية لا تتجاوز 5%، بينما رسوم البضائع الجديدة تبلغ نحو 15% من كلفتها.

ويشير شمس الدين للجزيرة نت إلى أن ألمانيا تتصدر قائمة البلدان التي يستورد منها لبنان "البالة" بنسبة تقدر بـ 45% وقيمتها 5 ملايين دولار تقريبا، ثم تليها تركيا والصين وأميركا وبلجيكا وبريطانيا، وتتبدل هذه التراتبية بين عام وآخر، إضافة لدول أخرى يستورد منها لبنان.

لكن قيمة استيراد "البالة" لا تشكل نسبة كبيرة من كلفة استيراد لبنان السنوية البالغة مؤخرا نحو 10 مليارات دولار.

ففي عام 2018، وفق الباحث، بلغت قيمة استيراد البالة 20.1 مليون دولار، وعام 2019 تراجعت إلى 12.7 مليونا مقابل 12 ألفا و458 طنا، ثم استمر التراجع عام 2020 إلى 9.5 ملايين دولار مقابل 9 آلاف طن من البضائع المستعملة.

ويتوقع شمس الدين أن يبلغ الانهيار الاقتصادي ذروته بعد رفع الدعم "مما يعني أن الشعب اللبناني سيلجأ لتغيير عادته جذريا بالأعياد مثل مختلف أيام السنة".

المصدر :الجزيرة