يُعيد البعض سبب أزمات لبنان المستعصية، سياسياً واقتصادياً، إلى النظام القائم ويعتبرون أننا في "أزمة نظام". والمقصود بالنظام هو التوزيع القائم للسلطة أو موازين القوى بين الطوائف الحاكمة داخل السلطة، هذا التوزيع الذي يعتبره هؤلاء غير منصف نظراً لتغيّر الأحجام ديمغرافياً وتبدّل أدوار الريادة بين المجموعات الطائفية الأساسية. أي أن المشكلة عند هؤلاء هي أن النظام الطائفي أصبح مجحفاً بحقهم وهم يطالبون بإلغائه ليس لقناعة عندهم بمزايا الدولة المدنية إنما لأن الديمغرافيا تسمح لهم بالحصول على حصة أكبر من حصتهم الحالية.
وبالمقابل يدافع البعض الآخر عن "النظام" مؤكّدين أن المشكلة في سياسات المحاور أو السياسات الاقتصادية. وهم بالتالي يتمسكون بالنظام من حيث كونه يضمن حضورهم في السلطة الذي يجب ألاّ ينقص بفعل التراجع العددي. وكلما اقتربت الفئة الأولى من ترجيح كفتها، قامت الثانية بالتلويح بالانسحاب من هذه الشركة والقول مجدداً بطروحات الفدرلة وما شابهها أي التلويح بالعودة إلى لبنان الصغير أو جبل لبنان بحدود المتصرفية أو غيرها. وقد برزت في الآونة الأخيرة طروحات أخذت حيزاً من النقاش في الإعلام وبدت متسلحة بدراسات مقارنة وخرائط افتراضية وأسباب موجبة.
وُجد النظام الطائفي في الأصل كضمانة لحماية المجتمع المتنوع أوالتعددي بحيث يكون لكل فئة من الفئات الحق بالمشاركة في إدارة الشؤون العامة بما يتناسب مع حجمها. وقد تبدلت الصيغ المعتمدة للتوزيع الطائفي في لبنان وتطورت، وتجذّرت، ومالت موازين القوى الى هذا الفريق أو ذاك تبعاً لتغيّر الأحجام والقوة والديمغرافيا، ولكن الطائفية استمرت ولم تقوَ عليها كل الأحداث الكبرى والمفاصل التاريخية التي مرت بلبنان منذ عهد المتصرفية، مروراً بإعلان لبنان الكبير ووضع الدستور في العام 1926 والاستقلال المترافق مع "الميثاق الوطني"، وصولاً إلى تعديلات العام 1990 المبنية على وثيقة الوفاق الوطني (إتفاق الطائف). وهذا رغم التأكيد في كل مرة على أن الطائفية "بغيضة" وأن التوزيع الطائفي هو تدبير مؤقت ينبغي العمل على التخلص منه للدخول في رحاب المساواة في المواطنة. وبدلاً من العمل على تحقيق ذلك حوّل القائمون على إدارة هذا النظام المواقع الدستورية التي يشغلونها إلى متاريس للصراع الطائفي. وما نشاهده اليوم من حروب البيانات دليل على ذلك.
حتى المفكرون الذين دافعوا عن طائفيّة النظام وحاولوا إبراز محاسنها ومنهم ميشال شيحا، أقروا بوجوب المباشرة بالتخلص منها. وشيحا الذي يعتبر الأب الروحي لنظام 1943 اقترح استبعاد الطائفة واعتماد الجدارة في موضعها داخل الإدارة والاحتفاظ بها في السلطة التشريعية فقط آملاً بأن يخفّف منها مرور الزمن وأن تزول ببطء.
إن التوصل إلى الأجوبة الصحيحة يبدأ بطرح الأسئلة الصحيحة. وما يجب طرحه اليوم هو هل أن النظام الطائفي قد أصبح المشكلة ويجب التخلص منه؟ وهل يمكن إيجاد البديل العادل المطمئن للجميع؟ لماذا امتنع الجميع عن المباشرة في تنفيذ إصلاحات اتفاق الطائف كتطبيق اللامركزية الموسعة وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية؟
الأكيد أن القوى الحاكمة تأبى أن تقارب هذه المسائل لأن تكوينها طائفي وأهدافها السياسية وخطابها لا يختلف عن تكوينها وبالتالي فأن التغيير الحقيقي للنظام من داخل آلياته الدستورية سيؤدي حتماً إلى زوالها. وهي مستمرة في إنتاج نفسها عند كل منعطف أو استحقاق. فهل ستتشكل قوى سياسية جديدة تقارب المسائل المذكورة بجدية وعمق وتطرح نفسها على الناخبين في الاستحقاقات القادمة؟