الخميس 15 تموز 2021 08:31 ص |
الاحتلال وجريمة منع النظرة الأخيرة بين خالدة جرار وابنتها سهى |
* هيثم زعيتر
بحزن وألم وغصة، يتلقى الإنسان نبأ وفاة عزيز، وتزداد الصدمة إذا كانت وفاة فُجائية، لم تكن مسبوقة بإشارات إنذار لمرض أو حادث. هذا ما ينطبق على المُناضلة خالدة كنعان محمد جرار (58 عاماً) عضو المجلس التشريعي الفلسطيني والمكتب السياسي لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، التي فُجعت بوفاة ابنتها سهى غسان جرار (31 عاماً)، إثر أزمة قلبية أصابتها بظروف طبيعية، خلال تواجُدها في منزلها، خلف "مُجمع فلسطين الطبي" في رام الله في الضفة الغربية المُحتلة. كل ذلك قد يمر في الحياة، لكن الاحتلال الإسرائيلي يُمعن دائماً بمُمارسة جرائمه المُتعددة، حيث رفض إطلاق سراح الأم خالدة، أو حتى السماح لها بإلقاء نظرة الوداع الأخير، قبل أن تُوارى ابنتها الثرى. لم يكتفِ الاحتلال بأن اعتقل المُناضلة خالدة، دون وجه حق، وزج بها بسُجونه، مُمارساً بحقها شتّى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي، وعدم احترامه حصانتها البرلمانية. لم يُشفِ غليله بأن كرر هذا الاعتقال مرّات عدّة، بل وتعمد تمديده مرّاراً وتكراراً، بعدما كان قد سبق ذلك بأن أصدر ضدها قرارات بالحبس المنزلي أو منع السفر. لكن، لم يُثنيها كل ذلك عن أن تُغير قيد أنملة السير عن خطها النضالي التي اختارته، بأن تُضحي بحريتها من أجل حرية عائلتها، وحرية من تُحب، والوطن الذي تفتديه. احتلال بغيض، حرم الابنة سهى من حنان الأمومة لسنوات عدّة، ويوم كانت بحاجة للنجدة، لحظة إصابتها بأزمة قلبية، لم تجد أمها إلى جوارها، وهي التي اعتادت أن تستمد منها الحنان عند أنينها، ففارقت الحياة. أغمضت سهى عينيها، وهي التي كانت تحلم بأن تُشاهد والدتها للمرة الأخيرة قبل الرحيل، تماماً كما كانت تغمر خالدة ابنتها، مُغدقة حباً، تُعوضها عن حنان حرمهما منه الاحتلال. عندما كان الاحتلال يضطر مُرغماً الإفراج عن خالدة، كانت تحتفل بانتصارها مع ابنتها سهى بدموع الفرح، التي تغيب اليوم، حتى لو كانت دموع الحزن على الفراق. ها هو الاحتلال يضرب بعرض الحائط كل القوانين والمواثيق والشرائع والأعراف الدولية والإنسانية، فيمنع الإفراج عن الأم، ويرفض اقتراح هيئة الأسرى والمُحررين المُتمثل بنقل جثمان سهى إلى السجن لتلقي الأم نظرة الوداع الأخيرة. المُناضلة خالدة التي حرمها الاحتلال أيضاً من المُشاركة في وداع والدها كنعان الذي توفي في آذار/مارس 2019 وهي داخل السجن، كانت تخشى أن تفقد والدتها وتحرم من وداعها، لكن كانت مصيبتها بأن فقدت ابنتها سهى التي زفت بالعلم الفلسطيني ووردة والدتها. لا شك أن "أم يافا" تستعيد الآن لحظة ارتسام الفرحة على شفتيها، وهي تضع مولودتها، وتُشاهد دب الحياة فيها، وتسمع صُراخها، قبل أن تختار لها اسم سهى. تلك المولودة، اليوم، فرحة بلقاء ربها، محرومة، مظلومة، بعد مسيرة نضالية... وأم لم تتمكن من حبس دمعتها في مُقلتيها. احتلال رفض الاحتضان الاستثنائي لأم، لترمق ابنتها نظرة الوداع الأخيرة، فهو يُريد أن يُوجه جُملة من الرسائل بحرمانه هذا، بأن يُدفع الثمن الباهظ للمُناضلين، ليس فقط بالاعتقال والزج بهم خلف قُيود السجن، بل بتمزيق قكب الأم على فلذة كبدها، بعدما حرمها الحنان والوداع. لكن خالدة، التي أبصرت النور في نابلس في العام 1963 مع تأسيس "حركة القوميين العرب"، اختارت في ريعان شبابها، الانتساب إلى "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، سائرةً في طريق نضالي، دفعت ضريبته اعتقالاً من الاحتلال مرّات عدّة. يوم وافقت على اختيار شريك العمر، كان أيضاً المُناضل الأسير غسان جرار. مع تكوين الأسرة، اختارت لمولودتها البكر اسم "يافا"، التي تخصصت في القانون. والثانية سهى، التي تخصصت في علوم الطقس والتغير المناخي وسياساته. ربتهما على حب فلسطين، والنضال لأجلها، وتقديم الغالي والنفيس في سبيل ذلك. وأن هذا الطريق شائك، محفوف بالألغام والأشواك وليس الورود، وعليهما الاعتماد على ذاتهما، لأن المُحتل يتربص بكل مُناضل. لكن، المُناضلة خالدة، التي انتصرت على السجّان مراراً وتكراراً، لن تسمح له بأن يكسرها بقراراته الجائرة. في كل لقاء معها، أو حديث إليها، يوم تعرّفتُ إليها مُنذ سنوات عدّة، تشعر بعنفوان مُتدفق من كلامها، وثقة بالنفس، وإيمان بعدالة قضيتها، فتستمد من ذلك القوّة. هذا ما كنت أسمعه أيضاً من مُناضلات، عشن معها التجربة في "سجن الدامون" - حيفا، في طليعتهم جهاد أبو زنيد، نريمان وعهد التميمي، وكيف تتحول إلى أم حاضنة لأي سجينة، تبث فيها المعنويات، وتشحد الهمم لمُواجهة السجّان والحاكم الظالم. تعمد إلى التعليم والتوعية والثقافة، مُشرفةً على "فوج التحدي"، التي أطلقته داخل السجن، فتخرّج فتيات أكثر علماً ووعياً وإدراكاً وثقافةً، بما في ذلك في القانون الدولي والإنساني، وبينهن من حصل على شهادات تعليمية لما اكتسبنه داخل السجن. "أم يافا" الصابرة على ألم الابتعاد عن ابنتها سهى بفعل السجّان الحاقد، تُفجع مرتين: - بخسارة سهى، وهي بعيدة عنها، بفعل جريمة الاحتلال باعتقالها بتُهم واهية، باعتباره النضال "تحريض على الإرهاب"، والذي كان آخره مُنذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، والمُمدد إدارياً، والذي ينتهي بعد شهرين. - بجُرمه المُتمادي بحرمانها المُشاركة زفاف عروستها. لكن، خالدة جرار، المُناضلة، ستكون أقوى وأصلب، لأنها تُدافع عن حقوق الإنسان والمُناضل، ومن أجل حُرية عائلتها وشعبها، وتحرير وطنها من آخر وأطول احتلال، ما زال في العالم، في طريق اختارته ووهبت حياتها في سبيل القضية التي آمنت بها، وناضلت لأجلها، وتتلهف للشهادة في سبيل ذلك أي لحظة. كما هي خارج السجن، تتمتع بحُريتها وهي داخله، تحبس سجّانها، لأنها أصلب من حديد السجّان، وأقوى من الجُدران، التي حولتها إلى إبداع فنان، تُخرّج الأجيال الفرسان، يوم تُحطم القضبان،
وتعود الطيور لتُحلق بحُرية دون استئذان. المصدر :جنوبيات |