لا يزال المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري، الناظر في جريمة انفجار المرفأ، يدرس ملف طلب الإذن بملاحقة مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وذلك بعدما رفض وزير الداخلية محمد فهمي في كتاب معلّل منح الإذن للمحقق العدلي القاضي بيطار باستجوابه كمدّعى عليه في القضية.
وقد تسلّم القاضي خوري من المحقّق العدلي المزيد من الأدلة والمستندات التي طلبها ليتّخذ قراره بناءً على ما تضمّنه من معطيات.
منذ تسريب خبر طلب الأذونات بملاحقة نواب وقادة أمنيين بالإعلام بدا أنّ "حالة عباس ابراهيم" منفصلة عمّن طلب القاضي بيطار الاستماع إليهم كمدّعى عليهم.
للرجل "بروفيل" يشبه الهالة التي ارتسمت حول أدواره المُعلنة والمُستترة منذ كان نائباً لمدير المخابرات في الجيش حتى تعيينه مديراً عاماً للأمن العام في تموز 2011 ثم إعادة تعيينه كـ "مدني" على رأس المديرية عام 2017 قبل إحالته إلى التقاعد، ما أتاح له البقاء في هذا الموقع حتى آذار 2023، أي تاريخ سنّ التقاعد البالغ 64 عاماً.
الضابط الذي عَمل، ولا يزال، على خط تماس الدول، وتابع وعالج أكثر الملفات الداخلية خطورة وحساسية وتعقيداً بما فيها تلك ذات البعد الخارجي وكاد أن يشكّل حالة استثنائية لم يطلها "غضب" الشارع منذ انتفاضة 17 تشرين بحيث بقيت بمنأى عن المحاسبة "الثأرية"، وضابط الأمن بأدوارٍ سياسية استحقت احترام وتقدير الداخل والخارج يجد اليوم نفسه في "بوز مدفع" الاتّهام بالمشاركة، تحت عنوان "القصد الاحتمالي"، بأحد أبشع الفظائع المرتكبة بحق الانسانية. ويصدف أنّ مسرحها مرفأ بيروت الذي يختزن بين عنابره أحد أوسخ عناوين الفساد والإهمال والزبائنية وهدر المال العام، وهو بالتأكيد الوجه الأكثر دناءة للمنظومة الحاكمة.
القريبون من اللواء ابراهيم، مع شريحة كبيرة داعمة بالكامل لحقّ أهالي ضحايا انفجار المرفأ في معرفة الحقيقة وكشف المسؤولين عن جريمة العصر، لا يستبعدون العامل السياسي في توجيه الاتّهام للواء ابراهيم.
لا يعني ذلك اتّهام القاضي بيطار بالعمل وفق أجندة سياسية، لكن قضية بحجم انفجار المرفأ قد تدخل على خطها جهات متضرّرة تستطيع التأثير في وجهة التحقيق في مرحلة معينة.
وربما يجهل كثيرون بأن اللواء ابراهيم، وفق المعلومات، خاض معركة لتزكية اسم طارق بيطار محققًا عدليًا في انفجار المرفأ. وصل الإسم إلى مكتبه و"سَأل عنه"، فوصَلته داتا تفيد بأنّه قاض نزيه وكفوء و"قبضاي"، فسعى بطريقته لتمهيد الطريق أمام تعيينه. يقول من يعرف اللواء ابراهيم "لو للحظة شعر بالمسؤولية حيال ما حصل هل كان ليضغط لتعيين قاض معروف باستقامته وكفاءته"؟!
ويُنقل عن مدير عام الأمن العام قوله "إذا فعلاً هناك قانون وسيتمّ الالتزام به لا شي سيمسّني، وأنا راضٍ عمّا قمت به ضمن صلاحياتي. لو كان المحقّق العدلي امبراطوراً لا داعي لطلب إذن الملاحقة، لكنه ليس كذلك. ومثلما هناك قانون يتيح الادّعاء وطلب الإذن، هناك قانون في المقابل يحمي الناس ممّن لا يجب الادّعاء عليهم كونهم خارج الشبهة وفق النصوص القانونية!".
أمّا القريبون منه فيقولونها كما هي: "هذه الحملة الكبيرة والضخمة "معناتها مش سئلانين عن قانون". عم يشتغلوا فقط سياسة مع استهداف شخصي واضح. وبالسياسة سيردّ عليها وعلى من يقف خلفها"!
كل من تسنّى له التواصل مع ابراهيم في الآونة الأخيرة يلمس تعاطفه الكامل مع أهالي الضحايا وتفّهمه لغضبهم. لا جدال في ذلك، مع تذكيره بسقوط ثلاثة شهداء من الأمن العام في انفجار 4 آب.
الحقيقة مطلوبة بأي ثمن لكن ليس بثمن إلباس التهم لمن لا مسؤولية عليهم. و"المرافعة" المؤجّلة لإثبات ذلك مدعّمة بالأدلّة والبراهين.
لكن الادّعاء بالأسلوب الذي تمّ ومن دون استماع القاضي بيطار إلى إفادة مدير عام الأمن العام الذي سبق له أن مثَلَ كشاهد أمام القاضي فادي صوان، ومضمون الإحالة التي على أساسها ادّعى بيطار على اللواء ابراهيم، هي مؤشرات تعزّز منطق رفض منح الإذن، وهذا متاح بالقانون. فالتهمة ثقيلة وتأخذ بعدًا إنسانياً، أبعد من تبعاته السياسية والقانونية، "يصعب لأي كان أن يحمله"، فكيف إذا كان الادّعاء غير بريء ومشوب بتساؤلات كثيرة!
مَن خاض مفاوضات لحلّ مشاكل مستعصية وتحرير أسرى ومعتقلين وعسكر ينظّم اليوم مشكلته بعقلٍ بارد و"على رواق" بعدما اتضحت الصورة بالكامل أمامه.
ينقل عن ابراهيم قوله: "حين كنت أفاوض على أرواح الناس، ويهدّدني الخاطفون بقتل من أسعى لتحريرهم. كان جوابي أنا لا أفاوض على جثث. لقد مَررت بأصعب من ذلك بكثير. الأسرى كانوا أمانة برقبتي، وفعلت المستحيل لأجلهم ولأجل عوائلهم. الآن أنا أواجه مشكلة تخصّني بالمباشر ووجهتها ليس القانون إنما السياسة، وسأتخطاها. أمّا الحقيقة فمطلوبة وفق معايير العدل والقانون إنصافًا لأرواح من سقطوا في الانفجار".
في تقييم مطلعين "ثمّة من استخدم قضية انفجار المرفأ لتوجيه رسائل عبر القاضي بيطار من دون أن يكون الأخير منفّذاً لأجندة سياسية بل ربما تأثر بمناخات ما. يبرز هذا الأمر بشكل أوضح من خلال مضمون الإحالة إلى النيابة العامة التمييزية بحق عباس ابراهيم".
الفريق القانوني الاستشاري لدى اللواء ابراهيم "لم ير في نصّ الإحالة ما يستدعي الشبهة بحق مدير عام أمن العام. خصوصًا عبر التركيز على نقطة هي عدم إفادة اللواء ابراهيم بوجود محضر عدلي مفتوح من أمن الدولة ومخابرته النيابة العامة التمييزية مع علمه بذلك بموجب تقرير وصله".
وهي نقطة يسهل جداً دحضها بالقانون، كون ليس ذلك من مهام الأمن العام بالإفادة عن هكذا نوع من المحاضر.
لكن الأهمّ، ما شهدته باحة منزل وزير الداخلية منذ أيام من قبل قسم من أهالي الضحايا ثم انسحابهم لتُترك الساحة لبعض "الثوار" المعروفي الانتماءات الحزبية والسياسية.
في تقدير كثيرين "بصمات بعض المرجعيات البارزة واضحة في مسار الادّعاء على اللواء ابراهيم ثم ايصال الرسائل في الشارع، ومن ثم ما رافق الادّعاء من تصويبٍ مباشر على اللواء ابراهيم بملفات فساد من دون غيره من المدّعى عليهم. هنا يجتمع بعض الحلفاء مع بعضهم، والحليف والخصم أيضاً، إذا كان الهدف عباس ابراهيم"!
سيناريو مكشوف ومفضوح أمام اللواء ابراهيم، لكن لاشيء يعلو الآن أمام أوجاع أهالي الضحايا عشية الذكرى الأولى لانفجار المرفأ.
في كل ما يحدث ثمّة من يجزم بأن لا دور للخارج فيه بل فقط حرتقات ومؤامرات من الداخل. لا بل أنّ العارفين يؤكدون بأنّ محضر لقاء اللواء ابراهيم مع البريطانيين أبّان زيارته الأخيرة إلى لندن تطرّق إلى مسألة الادّعاء مع تفهّم كامل لـ "الصورة بناءً على ما أوضحه مدير عام الأمن العام"، وهو تفهّم يتشارك فيه الكثير من عارفي اللواء ابراهيم من مسؤولين غربيين وأجانب لا يزالون يشيدون بالأدوار التي يلعبها الرجل وسط الرمال اللبنانية المتحرّكة وآخرها دخوله على خط تذليل العقد على مستوى تأليف الحكومة "وهو دور أزعج البعض"، وفق تأكيدات بعض المطلعين، مع ربط بديهي بالدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه ابراهيم في المرحلة المقبلة.
تجدون نصّ الإحالة من القاضي بيطار إلى وزير الداخلية عبر المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري مرفقاً.
تحميل الوثائق