السبت 6 آب 2016 09:50 ص

رحيل المعمِّر عبد القادر الموعد: أنجب 25 ذكراً من امرأة واحدة وأكثر من 140 حفيداً


* هيثم زعيتر:

عندما يرحل الكبار، يترك رحيلهم أثراً وذكرى، وألم وحزن على فراق مَنْ نُحب، ويزداد هذا الحزن إذا كان الراحل ذا سيرة حسنة وخُلُقٍ حسن، ويتّقي الله...
هذا هو حال الراحل عبد القادر يوسف سليم الموعد "أبو محمود" (93 عاماً) الذي يحفل سجلّه بتلك الصفات، والنضال من أجل فلسطين، في مسقط رأسه بلدة صفورية - قضاء الناصرة في إصبع الجليل، في مواجهة عصابات "الهاغانا" الصهيونية، قبل أنْ يضطر لمغادرتها إثر النكبة في العام 1948 إلى لبنان وهو مُصاب مع أمه وشقيقه وعمته.
تأهّل في العام 1940 من إبنة عمّه الحاجة فهيمة الموعد، وبعد النكبة عندما سمع أوّل رئيس وزراء لحكومة الاحتلال الإسرائيلي دافيد بن غوريون، يعلن "غداً الكبار يموتون والصغار ينسون" قرّر إثبات كذب ادّعاءاته، فأنشأ أمبراطورية بذرتها الأولى كانت 25 ولداً ذكراً من امرأة واحدة، ليصل تعدادها إلى أكثر من 140 حفيداً، علّمهم حب فلسطين والنضال لأجلها بشتى السبل والوسائل.
دفع ضريبة هذا النضال، فقدّم شهيدين، الأوّل هو الشهيد عبد العزيز الموعد، وهو في طليعة شهداء الثورة الفلسطينية، بعدما انطلق بقيادة عملية فدائية داخل منطقة "الحمة" في شمالي فلسطين المحتلة في العام 1969، بتكليف من الرئيس ياسر عرفات، الذي كان يحبّه كثيراً، فاستشهد عبد العزيز، ونُقِلَ جثمانه إلى سوريا، قبل أنْ يُنقل إلى لبنان بإصرار من الشهيد معروف سعد، الذي توجّه إلى الحدود اللبنانية - السورية لمواكبة نقل الجثمان، بعدما كانت السلطات اللبنانية تريد منع نقله، وكان موكب تشييع حاشد، يوم كانت للشهادة معانٍ مختلفة عنها اليوم.
والشهيد الثاني، هو محمّد، المعروف حركياً بإسم "جيفارا عين الحلوة"، وكان مسؤولاً عن تدريب الأشبال في معسكرات الثورة الفلسطينية، وعن العمليات الفدائية، وبعدما غادر مع أبطال الثورة الفلسطينية إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، في صيف العام 1982 إلى اليمن، قرّر العودة إلى لبنان، وسقط شهيداً في مواجهة مع قوّات الاحتلال في العام 1983.
انتقم الاحتلال كان من الحاج عبد القادر، الذي كان قد بنى مسكناً في حيّ الجميزة في مخيّم عين الحلوة، ودكاناً يبيع فيه إلى السمانة اللبن وقوارير الغاز، فضلاً عن المقاولات، فأضرم جنود الاحتلال النار في المنزل والمحل والسيارة، حيث أتت النيران على كامل المحتويات وأيضاً المبلغ المالي الكبير الذي كان قد ادّخره وخبّأه في المنزل، والبالغ 400 ألف دولار أميركي نقداً.
كما أقدم جنود الاحتلال على اعتقال أولاده وزّجهم في "معتقل أنصار" و"عتليت"، لكن ذلك لم يغيّر قناعات الحاج "أبو محمود"، الذي أنجب المزيد من الأولاد، وكان الأحفاد يتضاعفون، لأنّه يؤمن بأنّ العدو الإسرائيلي لا يفهم إلا لغة واحدة هي القوة، وأنّ مَنْ يعرف معنى الشهادة لا يتوانى عن تقديم المزيد من الشهداء.
لم تحد هذه التضحيات من عزيمة العم "أبو محمود"، بل جعلته أكثر صلابة على مواصلة طريق النضال، فطلب من أبنائه التوجّه إلى مقاتلة جحافل المحتلين، ونفّذوا عمليات عدّة في مخيّم عين الحلوة وصيدا ضد قوافله وجنوده وكبدوهم خسائر فادحة.
وإيماناً منه بتشعّب وسائل النضال، حثَّ أولاده وأحفاده على العلم، فمنهم المدرِّس والطبيب والمهندس، والأخصائي، كل منهم يناضل في مجاله، لأنّه يؤمن بأنّ الشعب الفلسطيني عليه أنْ يكون متعلّماً حتى يستطيع التغلّب على عدوه الصهيوني، وهذا ما دفعه في أحد الأيام، للتوجّه إلى الرئيس "أبو عمّار" ليطلب منه مساعدة نجله الذي كان يدرس الهندسة الميكانيكية في أميركا، ولم يعد باستطاعته دفع تكاليف تعليمه، بعدما حرق الاحتلال كل رزقه، فوقع على قرار دفع تكاليف التعليم.
الحاج "أبو محمود" الذي أعرفه وعائلته منذ صغري، يوم كان يصطحبني والدي معه لزيارتهم، كان يخاف الله، ومرضي الوالدين، ويساعد النّاس، ومؤمناً ووفياً، وبعد أنْ رحلت شريكة حياته بعد حجّتهما الأخيرة في العام 2003، بقي وفياً لها، بعدم الزواج، فهي شاركته بتأسيس "إمبراطورية" كبيرة، يرى فيهم امتداداً للمبادئ التي أرساها وزرعها في أبنائه وأحفاده.
يُغمِض عينه عن 93 عاماً، بعدما عاشر أكثر من جيل، وسمع من أحفاد الأحفاد "يا جدي كلّم جدك".
بقي محافظاً على لباسه الفلسطيني، وكلّما كنّا نلتقيه كان يحدّثنا عن حبه وشوقه لفلسطين، والنضال لأجلها، وواثق من أنّها ستعود يوماً، كما هو سيعود إليها، إنْ لم يكن جسداً، فرفات، ومن خلال الأحفاد، وهو ما علّمهم إياه، النضال لأجلها.
شُيّع جثمان الراحل أمس في مخيّم عين الحلوة بمشاركة حاشدة، حيث ووري الثرى في مقبرتها الجديدة، على أمل نقل رفاته إلى مسقط رأسه صفورية في فلسطين بعد التحرير.

 

المصدر : جنوبيات