استراتيجية الخروج الأميركية من العراق وأفغانستان تُنذر بندمٍ حتمي مستقبلاً وبتهديدٍ للأمن القومي الأميركي والأمني الإقليمي والدولي لكثرة ما فيها من عيوب وشوائب وخلل. المستفيد الأول من تدحرج القوات الأميركية من العراق وأفغانستان هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و"طالبان"، و"داعش"، و"القاعدة" ومشتقاتها القديمة والجديدة.
قد يقال إن من حق الولايات المتحدة أن تسأم من حروب الآخرين، لا سيّما الحروب السنّية والشيعيّة بمختلف أنواعها، وأن تودّع ساحاتها. سطحياً، هذا منطقي. فعليّاً، الولايات المتحدة، عبر إداراتها المتتالية، ساهمت في تأجيج هذه الحروب لغاياتها ولمصالحها. هي التي تعمّدت قلب الموازين تارة في مصلحة السُنَّة وتارة في مصلحة الشيعة، وأحياناً بتزامن بين الاثنتين. استثمرت أميركا في صنع الأصولية السنيَّة في أفغانستان والأصولية الشيعية في إيران، فأتى حكم الملالي عام 1979 بتسهيلات غربية مدهشة، وأتى بالموازاة في السنة ذاتها الإيحاء للأصولية السنيّة بأنها الشريك الأساسي لأميركا في إسقاط الشيوعية عبر بوابة أفغانستان. هكذا وُلد تنظيم "القاعدة" وبدأ نمو تسلّط "طالبان". هكذا وُلِدت الثيوقراطية الإيرانية، بتبنّيها الاضطهاد داخلياً، وبمشروعها الإقليمي العدائي في الجغرافيا العربية، والتوسّعي في جيرتها المباشرة وأبعد. مرة أخرى، تقدّم الولايات المتحدة الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم أدوات تنفيذ مشاريعها بالذات عبر أفغانستان في اتجاه آسيا الوسطى، وعبر العراق في اتجاه إتمام مشروع "الهلال الفارسي" الممتد عبر العراق الى سوريا الى لبنان.
الرئيس جو بايدن ليس جاهلاً بتداعيات استراتيجية الخروج من العراق وأفغانستان التي تبنّاها، وفريقه يدرك أنه بهذه الاستراتيجية يخدم النظام في طهران ويقوّي يد "الحرس الثوري" الجمهوري إقليمياً. يُدرك فريق بايدن أيضاً أن سرعة وتيرة استراتيجية الخروج من أفغانستان تلبّي المطلب الإيراني الأساسي بإخراج القوات الأميركية من الجيرة الإيرانية وسط العزم على رفع العقوبات بموجب المفاوضات على الاتفاقية النووية JCPOA بما يغدق الأموال على حكّام إيران لتمكينهم. يدرك أن هذه الاستراتيجية أيضاً تحاكي عطش "القاعدة" و"داعش" وأمثالهما وتنفخ في هذه التنظيمات زخم إحياء وإعادة اختراع نفسها بما يهدد الأمن العالمي. فهل استراتيجية الخروج الأميركية بريئة تنطلق من سذاجة وطنية؟ أم أنها كمثلها في الإدارات الأميركية السابقة لا براءة ولا سذاجة فيها، وإنما تعتزم لعب الورقة السنيّة - الشيعيّة بصيغة جديدة؟
لعلّ التفكير داخل إدارة بايدن يصبّ في معادلة بسيطة قوامها، أولاً، غسل الأيدي الأميركية من التورّط عسكرياً في حروب بعيدة، وثانياً، إعطاء الأولوية لإبراز جو بايدن رئيساً ينفّذ وعوده الانتخابية. قد يقال: وما الخطأ في ذلك؟ الجواب يكمن في كلفة الأمرين، أميركياً وعالمياً.
أميركا في حاجة الى "استراتيجية بقاء" ترافق "استراتيجية الخروج"، وإلا فإن مصالحها ومصالح حلفائها مهدَّدة.
العراق يبقى فائق الأهميّة ويجب ألاّ يسقط في أيدي الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأنه الحلقة الأساسية في مشروع "الهلال الفارسي" الممتد الى البحر الأبيض المتوسط عبر المحطة اللبنانية التي يسيطر عليها "حزب الله" نيابة عن "الحرس الثوري" الإيراني. سوريا وقعت في أيدي طهران وموسكو، وباتت محطة محسومة في المشروع الذي لم تتخلَّ عنه الجمهورية الإسلامية الإيرانية إيماناً منها بأن الولايات المتحدة الأميركية لن توقفه في نهاية المطاف.
فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تدلّلت على أيدي الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش في أعقاب إرهاب 11-9 عام 2001 عندما قرر غزو أفغانستان، فقدّم بذلك هديَّة غالية وثمينة لحكّام طهران، إذ قضى على أهم عدوّين لهم في جيرتهم المباشرة - الرئيس العراقي حينذاك صدّام حسين، و"طالبان" في أفغانستان.
أتى الرئيس باراك حسين أوباما في أعقاب جورج دبليو بوش بهديّة أخرى غالية وثمينة للجمهورية الإسلامية الإيرانية وذلك بانقلابه على العلاقات التقليدية مع الحلفاء العرب في منطقة الخليج ومصر واستبدال الوقوع في غرام طهران وملاليها بها. وقّع الاتفاقية النووية مع طهران بعدما خضع لإملاءاتها وشروطها القاطعة باستثناء مسألة الصواريخ، والأهم، مسألة السلوك الإقليمي، من أي مفاوضات أو مباحثات. وهكذا بارك باراك أوباما توسّع طهران في الجغرافيا العربية ونموّها كثيوقراطية شيعية. وكان في الوقت ذاته يدعم صعود "الإخوان المسلمين" السُنَّة الى الحكم في شمال أفريقيا، وفي المُقدِّمة في مصر، الى أن تمكّنت مصر من إيقاف مشروع "الإخوان" الخطير الذي شاركت تركيا جذرياً في بعثه في الجغرافيا العربية.
فلا جورج دبليو بوش كان بريئاً أو كان يحمل مشروع الديموقراطية الى المنطقة العربية. ولا باراك حسين أوباما كان ساذجاً عندما لعب الورقة الشيعيّة - السنيّة لتقوية الاثنين وتمكينهما في حروبهما المباشرة.
التاريخ لا يبدأ مع هذين الرئيسين ولا ينتهي معهما، بدأ مع الرئيس جيمي كارتر، مروراً بالرئيس دونالد ريغان، ثم الرئيس جورج بوش الأب، والرئيس بيل كلينتون. فكلّهم ساهم في تغذية الصراع السنّي - الشيعي لغايات مدروسة تبدو أساسية في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. صدّام حسين ظنّ نفسه الشريك غير القابل للاستغناء عنه لدى الأميركيين بعدما خاض حربه مع إيران بدعم أميركي وخليجي ساحق. لكنه اكتشف أن سيرة الاستغناء في القاموس الأميركي جدّيّة وهي فعلاً ساحقة.
اليوم، تأتي إدارة بايدن بما يبدو ظاهرياً طموحات خجولة، لها منطقها ومبرراتها. فعلياً، ما يقدّمه فريق جو بايدن الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذا المفصل التاريخي لها - وفي أعقاب سياسة الضغوط القصوى التي تبناها الرئيس دونالد ترامب - إنما هو ذخيرة نادرة وحيويّة لمشاريعها الإقليمية الهادفة الى سلب العراق ولبنان سيادتهما وتدجينهما في الحظيرة الإيرانية.
موقف مرشد الجمهورية علي خامنئي، ورئيس الجمهورية الجديد ابراهيم رئيسي، و"الحرس الثوري" بكامل قياداته هو موقف واضح وجليّ ومتشدّد ولا نقاش فيه. خلاصته الرفض القاطع لأي علاقة بين العودة الى الاتفاقية النووية التي يتم التفاوض عليها في فيينا وبين مسألتيّ الصواريخ والسياسات الإيرانية الإقليمية.
إدارة بايدن والحكومات الأوروبية المعنية - بريطانيا وفرنسا والمانيا - رضخت كليّاً لإصرار إيران على فصل المفاوضات النووية عن أي نقاش أو طرح للصواريخ وللسلوك الإقليمي. لكن هذا ليس كافياً لحكّام طهران. المناورات التفاوضية التي يقومون بها الآن تدخل في صلب هذا الموضوع. إنهم يرفضون احتفاظ واشنطن برفع أي عقوبات في مرحلة لاحقة - كجزء من الحلول الوسط - لأنهم يريدون قطع الطريق مسبقاً على أي محاولات لاستخدام أي نوع من العقوبات للتأثير في السياسات الإيرانية الإقليمية.
هذا ما أبلغه قادة إيران لكل من يعنيه الأمر. وفي المعلومات أن قيادات طهران قد توافق على حل تسوية compromise في مسألة الصواريخ في اتجاه الصواريخ الباليستية إنما مع الإصرار على عدم التنازل في صدد الصواريخ المتوسطة والقريبة المدى. فهذه الصواريخ أهم لها من الصواريخ الباليستية البعيدة المدى التي لن تستخدمها. فإذا وافقت الدول الغربية، وفي مقدمها واشنطن، على مثل هذا الحل الوسط كتسوية، تكون بذلك ركعت أمام الخطط والمشاريع الإيرانية الإقليمية.
وفي المعلومات أيضاً، أن القيادات الإيرانية لن تتراجع إطلاقاً عن إصرارها القاطع على المضي بسياساتها الإقليمية وهي تطالب الدول التي تتفاوض معها في فيينا بتقديم الضمانات المكبَّلة في هذا الصدد. فإذا رضخت الدول الغربية - وهي كما يبدو قد ترضخ بسبب هوسها بالأولوية النووية التي تُحسن إيران ابتزازها - تكون الدول الغربية قد استثمرت مباشرة في المشروع الإيراني الإقليمي الذي يقضم العراق وسوريا ولبنان ويوصل الجمهورية الإسلامية الى جيرة مباشرة مع إسرائيل عبر لبنان بالدرجة الأولى.
تقول المصادر المطّلِعة على التفكير والاستعدادات في إيران إن البحث جارٍ داخلياً عن استراتيجية جديدة للجمهورية الإسلامية قوامها كيفية الاستمرار في بسط النفوذ الإيراني إقليمياً بزخم ما بعد رفع العقوبات بموجب الاتفاقيات المُرتقبة في فيينا. عملية فيينا تمر بمرحلة بطء تتخلّلها مواقف تكتيكية لطهران الهدف منها دب الذعر في قلوب الدول الغربية خوفاً من تراجع ابراهيم رئيسي عما تمّ الاتفاق عليه مع سلفه الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف.
واقع الأمر هو أن تأجيل التوصّل الى اتفاق في فيينا لربما الى أيلول (سبتمبر) أو تشرين الأول (أكتوبر) يخلق مشاكل لإيران. لكن طهران تفضّل استخدام الرئاسة الجديدة للحصول على تنازلات وضمانات في شأن عدم التدخّل في سياساتها الخارجية التوسّعية. فطهران تعهّدت لمن استمع اليها إنها لن توافق على أي ما من شأنه أن يوقف أو يعرقل أو يؤثر في نشاطاتها الإقليمية. وهي تضع استراتيجية هذا الخريف للفرض على الدول الأوروبية وإدارة بايدن أن ترفع يدها عن السلوك الإقليمي الذي تريد طهران له أن يكون طليق اليد بضمانات عدم التدخل فيه.
أين تقف إدارة بايدن من كل هذا؟ إنها تقف في موضع المتلقّي. قد تكون لديها سياسة بعيدة المدى، إنما هذه السياسة تبدو بلا استراتيجية. إدارة بايدن تعتمد استراتيجية الخروج من حال الجفاء مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي صاغه دونالد ترامب، لا تعبث بتداعيات ذلك اقليمياً أو على صعيد انتهاكات حقوق الإنسان داخل الجمهورية الإسلامية.
كلمة أخيرة حول أهم وكيل إقليمي لطهران، أي "حزب الله" في لبنان. تقول المصادر إن قيادة الحزب تقوم حالياً ببحث تغيير الهيكليّة الداخلية للحزب بحيث يُعزَّز التمييز بين الجناح العسكري والجناح السياسي. وحسبما أكد "حزب الله" لها فإن الهدف من إعادة هيكلة الجناح العسكري هو "تعزيز القدرة على الحرب على مستوى جديد وأكثر تفوّقاً".
استراتيجية الخروج الأميركية من العراق وأفغانستان تخدم، ليس فقط إيران وإنما وكلاءها في العراق وسوريا ولبنان. وما لم تستدرك إدارة بايدن وتصغي لما تقوله لها طهران بوضوح وصراحة حول مشاريعها الإقليمية، لن تدفع الدول العربية وحدها الثمن، بل إن الأمن القومي الأميركي سيكون مهدَّداً. عندئذ يبقى فقط الندم على استعجال تنفيذ الوعود البايدنية.