الأحد 8 آب 2021 13:29 م

المفتي دريان يوجه رسالة الى اللبنانيين بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة


* جنوبيات

وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة الاتي نصها:

"الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين :

الحمدُ للهِ ذِي الفَضْلِ والإحْسَان ، شرعَ لعبادِه هِجْرةَ القُلوبِ وهِجْرةَ الأَبْدَان ، وجَعَلَ هاتين الهِجْرَتين باقِيَتَيْنِ على مَرِّ الزَّمان .

وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه ، وَعَدَ المُهَاجِرين إليهِ أجْرَاً عَظِيماً ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ ، وقالَ تَعَالى : ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ، وقَالَ تَعَالى : ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.

وأشْهَدُ أنَّ محمداً عَبْدُه ورسُولُه ، هَاجرَ إلى رَبِّه فأوَاه وحَمَاه ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أن قَال : (لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ، وعلى آلِه وأصْحَابِه الذين هَاجَرُوا وجَاهَدُوا في سَبِيلِ الله ، حتَّى فَتَحُوا القُلوبَ والبُلْدَان ، ونَشَرُوا العدلَ والإيمانَ والإحْسَان .

أما بعد :

أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :

مع حُلولِ كُلِّ عامٍ هجريٍّ جَدِيد ، يقفُ المسلمونَ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها مُحْتَفِينَ بعامٍ هجريٍّ جديد ، ومُسْتَذْكِرين أحداثَ الهِجْرِةِ النَبَوِيَّةِ الشَّرِيفَة ، التي تَسْتَحِقُّ الوَقْفَةَ المُتَأَنِّيَة ، لأَنَّها كَانتْ في حَقِيقَتِها ، حَدَثاً بالغَ الأهميةِ في تَارِيخِ وحَياةِ العربِ والمسلمين ، وَهيَ لَم تَكُنْ سَفَرَاً وانْتِقَالاً لِتَحْصِيلِ مُتَعِ الدُّنْيَا ومَلَذَّاتِهَا، وإنما كانتْ انْتِقَالاً مِنْ أَجْلِ الحِفَاظِ على العقيدة ، وتضحيةً كُبْرَى على حِسَابِ النَّفْسِ والمَالِ والأهْلِ والوَلَد ،  مِنْ أجلِ العَقِيدة ، فهيَ تَبْدَأُ من أَجْلِ العَقِيدة ، وغَايتُها العَقِيدة ، وفِيهَا الإصرارُ على اتِّبَاعِ الحقِّ ، والدَّعوةِ إلى نَهْجِ الهُدَى والرَّشَاد.

ذكرى الهجرةِ النبويةِ الشريفةِ ، عزيزةٌ على قلبِ كُلِّ مسلم ، وعلى قلبِ كُلِّ طالبٍ للحقّ ، ومُناضِلٍ في سبيلِه . ففي العامِ الرابع عشر للبعثة ، الموافق للعام سِتِّمِئةٍ واثنينِ وعِشرينَ للميلاد، وفي مثلِ هذه الأيَّام ، اُضْطُرَّ رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه، للخروجِ مِنْ بيتِه ، ومَسْقِطِ رأسِهِ بِمَكَّةَ أُمِّ القُرى ، مُهاجِراً إلى يَثْرِب ، التي سمَّاها المَدينة ، بعدَ أنِ استقرَّ فيها.

لماذا هاجرَ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ؟ لأنَّهُ بَعدَ اثنَيْ عَشَرَ عاماً مِنَ الدَّعوةِ إلى توحيدِ الله ، بينَ بَني قَومِه ، عانَى كمَا عانَى الذينَ اتَّبَعُوا دَعوتَهُ الاضْطِهادَ ، والتَّجويعَ ، والقَتْلَ ، وفَقدَ الحُرِّيَّة ؛ بحيثُ ما عادَ مُمْكِناً له ولأتْباعِهِ الاستِمْرار ، إنْ أرادُوا الإيمانَ والكَرامَةَ والحُرِّيَّة . هؤلاءِ المؤمنونَ الثَّابتونَ على دِينِهِم وَيَقِينِهِم، يقولُ عنهُمُ القرآنُ الكريم : ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ ، ويقولُ أيضاً : ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ .

هؤلاءِ الصَّادقون الذينَ تَركوا دِيارَهُمْ وَاَمْوَالَهُمْ ، وَأَحْيَاناً أُسَرَهُم ، وقَبْلَ هِجْرَةِ نَبِيِّهِمْ وَبَعْدَها ، لَقُوا تَرْحَاباً واحْتِضَاناً في دارِ الهِجْرة، وبِقِيَادَةِ نَبِيِّهِمْ صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه، أَنْشَأُوا مُجْتَمَعاً ، وأَقامُوا دَولةً ، ثُمَّ عَادُوا بَعدَ ثمَاني سنواتٍ لتَصْحِيحِ الأوضَاعِ بِمكَّة.

أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :

تَحُلُّ ذِكرَى الهِجرَةِ النَّبَوِيَّةِ هذا العام، والنَّكَبَاتُ تُحِيطُ بِالشَّعْبِ اللبنانِيّ، الذي تُشْبِهُ حَالتُهُ أَحوَالَ القِلَّةِ مِنَ المسلمين بِمَكَّة ، إِبَّانَ العَامِ سِتِّمِئةٍ واثنينِ وعِشرينَ للميلاد ، عامَ الهِجرَةِ إلى يَثرِبَ، التي سمَّاها رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه المَدِينَة المُنَوَّرَة

فَلْنَتَصَوَّرْ أَوضَاعَ تِلكَ القِلَّةِ مِنَ المُؤمنين بِالرِّسَالَة ، وقد أَرْغَمَهُمْ بَنُو قَومِهِمْ على الاعْتِزَالِ في الشِّعْب ، وهو مَضيقٌ بينَ جَبَلَينِ بِجِوَارِ مَكَّةَ ، بِدُونِ مَاءٍ وَلا غِذاء ، حتى اضْطُرُّوا لِأَكْلِ وَرَقِ الشَّجَر ! لقد كَانَ المَطلُوبُ مِنهُمُ التَّنَكُّرُ لِلدِّينِ الذي آمِنُوا بِه ، وَالعَودَةُ لِعِبَادَةِ الأَوثَان . وَهؤلاءِ الكِبَارُ الكِبَار ، آثَرُوا الحِصَارَ فَالهِجْرَةَ على العَودَةِ إلى أَوضَاعِهِمُ السَّابِقَةِ البَائسَة . ولِأنَّ ثِقَتَهُمْ بِرَبِّهِمْ كانَتْ كَبِيرَةً ، وَبِصِدْقِ نَبِيِّهِمْ كانَ عَظِيماً؛ فإنَّهم هَاجَرُوا إلى الحَبَشَة ، ثُمَّ إلى يَثرِبَ حيثُ أَمَرَهُمْ نَبِيُّهُم ، ومِنْ هناك ، وَبَعدَ سَنَوَاتٍ مِنَ الكِفَاح ، عَادُوا إلى مَكَّة ، وَقَدْ صَارَتْ بِعَودَتِهِمْ مَوطِنًا لِلعَيشِ الرَّحْبِ وَالمُتَسَامِح ، لا يُضْطَّهَدُ فيها أَحَد ، ولا يَجُوعُ أحدٌ أو يُحاصَر . وهكذا فإنَّ هِجْرَةَ أَسْلافِنا الأوائلِ مَا كانَتْ في الحَقِيقَةِ هِجْرَةً مِنَ الدِّيَار ، بَلْ إلى الدِّيَار ، وَمِنْ أَجْلِ التَّغيِيرِ إلى الأَفْضَلِ وَالأَحْسَنِ وَالأَشْرَف . لقد كانتِ المُعَانَاةُ شَدِيدَةً، وَاسْتُشْهِدَ كَثِيرُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ تَحتَ الحِصَارِ أوْ فِي الحُرُوب ، لكنَّ الحَيَاةَ الجَدِيدَةَ ، صَارَتْ بَعدَ النِّضَالِ ذَاتَ مَعْنًى تَهُونُ مِنْ أَجْلِهِ وفِي سَبِيلِهِ التَّضْحِيَات .

أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :

نعم ، نحنُ مُحَاصَرُون ، وَليسَ في شِعْبٍ وَاحِد ، بلْ فِي شِعَاب . مُحَاصَرُونَ فِي شُعْبَةِ المَحرُوقَات . وَمُحَاصَرُونَ فِي شُعبَةِ الدَّوَاء . ومُحَاصَرُونَ فِي شُعْبَةِ الغِذَاء . ومُحَاصَرُونَ فِي شُعْبَةِ الوَبَاء . ومُحَاصَرُونَ فِي شِعَابٍ لا تَكَادُ تُحْصَى ، وَأوَّلُها وَأهَمُّها أَنَّهُ مَمْنُوعٌ علينا أَنْ تَكُونَ عِندَنَا حُكومَةٌ ، يُمكِنُ أَنْ تُدِيرَ شُؤُونِنَا ، وَتُخْرِجَنَا مِنَ النُدْرَة ، وَمِنْ أَهْوَالِ الجُوعِ وَالفُقْدَان : فَهَلِ الحَالَةُ التي نَحنُ فيها تَسْتَدْعِي الهِجرَة ؟ لَقَدْ فَارَقَنَا عَشَرَاتُ الأُلُوفِ مِنَ الأَكْفِيَاءِ الأَذْكِيَاء ، خِلالَ العَامَينِ المَاضِيَين ، فازدَدْنَا بُؤسَاً وًفًقراً.

ولذلك ، وَرَغْمَ شَبَهِ حَالَتِنَا بِحَالَةِ المُسْتَضْعَفِينَ فِي شِعْبِ مَكَّة ، إنَّمَا يَبدُو أَنَّنَا نَحنُ اللبنانِيِّينَ الذينَ دَأَبْنَا على الهِجْرَةِ مُنذُ قَرْنٍ وَنِصْف ، مَا اسْتَطَعْنَا القِيَامَ بِمَا قَامَ بِهِ مُهَاجِرُونَا الأَوَائل ، خِلالَ بِضْعَةِ أَعْوَام . لقدْ بَحَثَ المُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُسلِمِينَ عَنْ مَعْنىً جَدِيدٍ لِحَيَاتِهِمْ فَصَنَعُوهُ فِي المَدِينَةِ المُنَوَّرَة ، ثُمَّ عَادُوا فَأَعْطَوْا هذا المَعْنَى لِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ التي صَارَتْ بِالبيتِ الحَرَام ، مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأمْنا.

فَمَنِ الذينَ يُحَاصِرُونَنَا في لبنانَ اليوم ، وَمَنِ الذينَ يُرِيدُونَنَا أَنْ نُهَاجِرَ وَلا نَعُود ؟ إنَّهُمْ هُمْ أَنفُسُهُمُ الذين يَضِنُّونَ علينا وَمِنْ أَمْوَالِنَا بِالغِذَاءِ وَبِالدَّوَاءِ وَبِالمَحرُوقَات ، بَلْ وَلا يَسْمَحُونَ بِتَشْكِيلِ حُكُومَةٍ أَو جِهَةٍ يُمْكِنُ لنا التَّوَجُّهُ إليها بِالسُّؤَالِ وَالمُحَاسَبَة ، أَوْ حَتَّى بِالشَّكْوَى !

ماذا يُرِيدُ الذين يُحَاصِرُونَنَا مِنَّا إذن ؟

يُرِيدُونَ أَنْ لا نَتَمَسَّكَ بِوَطَنِنَا وَبِمُجْتَمَعِنَا، وَبِعَيشِنَا المُشْتَرَك، وَبِالمَعْنَى الكَبِيرِ لِلُبْنانَ الرِّسَالَة. لقد رَاقَبْتُ قَبْلَ أَيَامٍ عَشَرَاتِ الآلافِ مِنْ شَبَابِ لبنانَ وَشَابَّاتِه، وَشُيُوخِهِ وَأطفَالِه ، وَهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِالمَرفَأِ وَمِنْ حَولِه ، يَنْعَونَ مَنْ فَقَدُوا ، وَيُعلِنُونَ التَّصمِيمَ على مَطَالِبِ العَدَالَة . وَهُمْ بِذلِكَ يُعلِنُونَ الإيمانَ بِوَطَنِهِمْ، وَيَطلُبونِ الأَمَانَةَ وَالثِّقَةَ فِي إدارَةِ شُؤونِه، وَيَفْتَقِدُونَ الإحساسَ بِالمَسؤُولِيَّة، مِنْ جَانِبِ أُولئكَ الذين يَعْتَزُّونَ بِالسَيطَرَةِ عليهم : فَهَلْ هي سَيطَرَةٌ مِنْ أَجْلِ الإِفْقَارِ وَالتَّهْجِير ؟

أيها اللبنانيون :

في ذِكْرَى الهِجرَةِ النَّبَوِيَّة، يَكُونُ علينا أَنْ نَتَذَكَّرَ أنَّ المُهَاجِرِينَ الأوائل، مَا كانَ عَدَدُهُمْ يَزِيدُ على بِضْعِ مِئات، وكانتِ الكَثرَةُ بِمَكَّةَ ضِدَّهُم. أمَّا نحنُ في لبنان، فإنَّ السَّوَادَ الأعظمَ مِنْ شَعبِنَا هُوَ تَحتَ المُعانَاةِ القَاتِلَة، ولا يُمكِنُ لِشَعْبٍ بِكامِلِهِ أَنْ يُهَاجِر . ثُمَّ لنْ نَتْرُكَ دِيَارَنَا التي نُحِبّ، وَعَيشَنَا المُشتَرَكَ الذي نَرغَبُ فيه، وَاعْتَدْنَا على مَنَاعِمِه. إِنَّ الشَّبَابَ المُتَظَاهِرِينَ بِالمرفَأِ قَبلَ أَيَّام ، جَدَّدُوا لَدَيْنَا الأَمَلَ في البَقَاء، مِنْ أَجِلِ الإِنْقَاذ ، وَمِنْ أَجْلِ التَّغْيِير ، وَمِنْ أَجْلِ الاسْتِبْدَال . كانَ الصَّالِحُونَ مِنْ كِبَارِنَا - عِندَ اشْتِدَادِ الأَزَمَات - يَصْرُخُونَ مُتَوَجِّهِينَ إِلى المَولَى عَزَّ وَجَلّ : يَا رَبِّ غَيِّرْه ! وَعِندَمَا يَتَوَجَّهُ المَرْءُ لِرَبِّهِ مُطالباً بِالتَّغيِير، فَهُوَ إنَّما يَسأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلّ ، أنْ يُعِينَهُ هُوَ على التَّغيِير : ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

إنَّ مَعْنَى هذا كُلِّه ، أَنَّ التَّغيِيرَ يَعتَمِدُ علينا . وهذا ما تَقُولُهُ الآيَةُ القُرآنِيَّةُ؛ وقَالَهُ لنَا المُجْتَمَعِ الدَّولِيّ، فِي مُؤْتَمَرِ بَارِيسَ يَومَ الرَّابِعِ مِنْ آبَ الحَالِيّ . وقَالَهُ الرَّئيسُ الفَرَنْسِيّ ، وقالَهُ وَزِيرُ الخَارِجِيَّةِ السُّعُودِيّ ، وَقَالَهُ كُلُّ الحَاضِرِينَ فِي المُؤْتَمَرِ الفَرَنْسِيِّ الثَّالِث ، لِلتَّضَامُنِ مَعَ الشَّعْبِ اللبنانِيِّ المَنْكُوب ، نَعَمْ المَنْكُوبِ بِقِيَادَاتِهِ السِّيَاسِيَّةِ وَمَسؤُولِيه .

أيها اللبنانيون :

مَا عَادَتِ الشَّكْوَى تُفِيدُ وَلا التَّذمُّرُ وَلا النَّصِيحَة . ولذلك ، إذا أردْنَا إِنقَاذَ الوَطَنِ وَالدَّولة ، فإنَّهُ يَكونُ علينا لا أَنْ نُهَاجِر ، بَلْ أَنْ نُغَيِّرَ أُولئكَ الذين يُصِمُّونَ آذَانَهُمْ وَضَمَائرَهُمْ وَعُيُونَهُمْ عَنْ بُؤْسِ الشَّعْبِ اللبنانِيّ ، وَمُشْكِلاتِهِ التي ازْدَادَتِ اسْتِعْصَاءً فِي عَهدِهِمُ المَيمُون . نعم ، لا بُدَّ مِنَ التَّغيِيرِ بِأَيِّ شَكْل.

نَحنُ أَهْلَ الدِّين ، لا نُحِبُّ الفَوضَى ، لكنَّ هؤلاءِ هُمُ الذين يَدفَعُونَ المُواطِنِينَ بِالقُوَّةِ إلى الفَوضَى ، وإلى المُعَارَضَة ، التي نَخْشَى أَنْ تُصبِحَ عَنِيفَةً وَغَيرَ رَشِيدَة . بِمَاذَا طَالَبَ كُلُّ رِجالِ الدِّين ، وَخِلالَ عَامٍ وَنِصف ؟ لقَدْ طَالَبُوا بِالبَدِيهِيِّ فِي كُلِّ بلدٍ مِنْ بُلدَانِ العَالَمِ المُتَحَضِّرِ وَغَيرِ المُتَحَضِّر . طَالَبُوا بِحُكُومَةٍ لإدَارَةِ البِلاد . طَالَبُوا بِإِخرَاجِ لُبنانَ مِنْ أَهوَالِ المَحَاوِرِ المُتَصَارِعَة . طَالَبُوا بِأَنْ تُسَيْطِرَ الدَّولَةُ عَلى مَرَافِقِها ، وَأَنْ تَضْبِطَ حُدُودَهَا ، فَتَحُولَ دُونَ الجَرِيمَةِ وَالتَّهدِيد . طَالَبُوا بِعَدَمِ مُعَادَاتِ العَرَبِ وَالعَالَم. طَالَبُوا بِمُكَافَحَةِ الفَسَاد . لا يَستَطِيعُ رَجُلُ الدِّينِ نِسيانَ دِينِه وَأَخلاقِهِ وَضَمِيرِه ، مَا عُدْنَا نَستَطِيعُ الصَّمْت، لأنَّ السَّاكِتَ عَنِ الحَقِّ شَيطَانٌ أَخْرَس ، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيف .

أيها اللبنانيون :

إن تشكيلَ الحكومة ، حكومةِ الإنقاذِ التي يُرِيدُها اللبنانيون والمُجتمعُ العربيُّ والدَّوليّ، هي بدايةُ حلِّ آلامِ المواطنين وعذاباتِهِمْ ، والأزمةُ اللبنانيَّة ، حلُّها بيدِ اللبنانيِّين ، فهُمُ الذين يُعانون عَدَمَ تَوَافُرِ أسبابِ العيشِ الكريم ، لذا عليكم أيها المسؤولونَ أنْ تُقدِّمُوا مَصلحَةَ لبنانَ على كُلِّ مَصالِحِ الآخَرِين ، وأيُّ كلامٍ غَيرُ هذا ، مَضيعَةٌ للوقت ، وإلهَاءٌ لِلنَّاس ، الذين يتخبَّطون في أزَمَاتٍ مَعِيشِيَّةٍ واقتصادِيَّةٍ وأمنِيَّهٍ أحياناً ، والدَّولةُ والسُّلطَةُ الحاكمة ، تَتَحَمَّلُ مَسؤوليَّةَ مَا وصَلَ إليه الوَضعُ في لبنان ، مِنِ اهْتِرَاءٍ وانهيارٍ أَطَاحَ بِكُلِّ مُقَوِّمَاتِ الحياةِ الكريمة .

الفَسَادُ يَعُمُّ البلاد ، والإصلاحُ يَتَطَلَّبُ جُهوداً كبيرةً مِنَ الحكومَةِ العتِيدة ، التي نَأْمَلُ أنْ تُشَكَّلَ خِلالَ أيامٍ قليلة ، فالتأخيرُ في التشكيل ، يَدفَعُ ثَمَنَهُ المُواطنون جَميعاً ، مِنْ حياتِهِم وأرزاقِهِمْ ومُستقبَلِهِمْ ومُستَقبَلِ أبنائهِم ، وهذا خَطَرٌ على كِيانِ الدَّولةِ التي تكادُ تَلْفِظُ  أَنْفَاسَها الأخيرة ، ومَعَ هذا يبقى الشَّعْبُ اللبنانيُّ صابراً مُحْتَسِباً ، يَحمِلُ في نَفسِهِ ثِقةً لا تُزَعزِعُها الأنواء ، ويبقى في قلبِهِ صَبرٌ وإيمانٌ بأنَّ الحقَّ سيعلو ، وأنَّ الوطَنَ سينهض ، وأنَّ ما تُقدِّمُه الدُّوَلُ الصَّديقةُ مِنْ جُرُعَاتِ دَعْمٍ وُعِدَ بها لبنانُ في مؤتمرِ الدَّعمِ الدَّولِيِّ المُنعَقِدِ مُؤَخَّراً سيكونُ أوَّلَ الغيث .

فيا مسؤولي لبنانَ وَيحَكُمْ ماذا فَعَلْتُمْ بلبنان ؟ وماذا تَنتَظِرُون لِإنقاذِ بَلدِكُمْ ؟ أمَا كفاكُمْ تلهِّياً بِخلافاتِكُم ، وتنازُعاً على مُكتَسَبَاتِكُم وَحِصَصِكُم ؟ أين المسؤوليةُ الوَطَنِيَّة ؟ وأين المُبَادَرَاتُ الفَورِيَّةُ والعاجِلَةُ لإنقاذِ اللبنانيين الذين جَنيتُمْ عليهِم ، وأدخلتُموهُمْ في نَفَقِ الذُّلِّ والهَوان ، أين أنتم ؟ بل أين هي المسؤوليَّةُ منكم ؟  لا يَسَعُنا إلا أنْ نقول : حَسْبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيل .

أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :

لا مكانَ للفِتْنَةِ بين المسلمينَ في لبنان ، كما أنَّهُ لا مكانَ للفِتنةِ بين اللبنانيين ، رغمَ تَنَوُّعِهِمُ السِّيَاسِيِّ وَالفِكرِيّ ، فلبنانُ أَمانَةُ هذا الشَّرقِ العربيِّ ورسالتُه ، وما حَصَلَ خِلالَ الأيامِ القليلةِ الماضية ، يَحتاجُ إلى كثيرِ حِكمَةٍ ورِجَال ، وَدولَةٍ تعي المَخَاطِرَ التي تُهَدِّدُ وُجودَها والكِيان ، فالعَدُوُّ الصُّهيونِيُّ الحَاقِد ، لا يُمَيِّزُ بين اللبنانيِّين ولا بين مَناطِقِهِم .

أيها المسؤولون :

اِتَّقُوا اللهَ في هذا الوطن ، واتَّقُوا الله في عذاباتِ المواطنين الذين يبحثون عنِ الغِذاءِ والدَّواءِ والماءِ والكَهرَباءِ والمحروقات ، فيما الغلاءُ والبلاءُ والوباءُ يَفتَرِسُهُم ، فماذا أنتم فاعلون ؟

أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :

فِي ذِكرَى الهِجرَةِ النَّبَوِيَّة ، نَرَى أنَّ الهِجْرَةَ كَانَتْ دَاعِيَةَ تَغْيِير ، وَدَاعِيَةَ ثَورَةٍ على الظُّلْم، وَطَلباً مِنْ أَجْلِ حُرِّيَّةِ الاعتِقَاد ، وَحُرِّيَّةِ العَقْل ، وَحُرِّيَةِ الضَّمِير . وَهذِهِ الحُرِّيَّاتُ اليَوم ، هِيَ مَطلَبُ الشَّعْبِ اللبنانِيِّ كُلِّه . وَلِذلِك ، أُطَالِبُكُمْ وَأُطَالِبُ نَفْسِي بِأَنْ نَحْرِصَ على حُقُوقِنَا كَمُوَاطِنِين ، وَعَلى حُرِّيَاتِنَا ، بِاعْتِبَارِنَا بَشَراً كِرَاماً ، وَعَلى ثِقَتِنَا بِاللهِ عَزَّ وَجَلّ، وَتَضَامُنِنَا ، وَعَيشِنَا المُشْتَرِك، وًلْتَكُنْ هِجْرَتُنا جَميعاً إلى الوَطَنِ الذي نُحِبُّهُ وَنَحْرِصُ على أمْنِهِ وَسَلامِهِ وَرَفَاهِه ، لِيبْقَى وَطَنُنا لنَا جَمِيعاً ، سَيِّداً حُرّاً مُستَقِلاً ، مُتَمَتِّعاً بِالحُكْمِ الصَّالِحِ وَالرَّشِيد .

قَالَ تَعَالى : ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ . صَدَقَ اللهُ العَظِيم . وكلُّ عامٍ هجريٍ وأنتم بخير ، والسَّلامُ عليكم ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه".

المصدر :جنوبيات