مع طرح كل ملف يتعلّق بالقضية الفلسطينية، يبرز إسم وزير الخارجية الفلسطيني الدكتور رياض المالكي، حتى بات "صمّام الأمان"، وهو ما يفسّر تمسّك الرئيس الفلسطيني محمود عباس به، عندما طرح البعض أنْ تُسند حقيبة الخارجية في "حكومة الوفاق الوطني" إلى أحد المقرّبين الفتحاويين، لكن الرئيس "أبو مازن" أصرَّ على أنْ يُعاد إسنادها إلى المالكي، لأنّه يعرفه تمام المعرفة، ويعلم تماماً ماذا يمكن أنْ يقوم به، وأهمية ودور الدبلوماسية الفلسطينية في هذه المرحلة بالذات...
يطول الحديث مع وزير الخارجية الفلسطيني، وتتشعّب الملفات التي نتناولها في حوار على مدى أكثر من ساعتين، ليشمل ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، سواء لجهة الوضع الداخلي، أو في ضوء التطوّرات الميدانية المفعمة بالمواجهات البطولية للشبّان الفلسطينيين ضد جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين، في ظل انسداد آفاق التسوية مع استمرار تعنّت حكومة الاحتلال الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو، في فترة اللانتائج والترقّب قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة...
في المقابل، ماذا عن الخطوات التي ستتّخذها القيادة الفلسطينية بشأن العلاقات والاتفاقات مع الكيان الإسرائيلي، ووضع الملفات التي تقدّمت بها فلسطين إلى "المحكمة الجنائية الدولية"، ومصير المسعى الفرنسي باتجاه "مجلس الأمن الدولي"، فضلاً عن التحضيرات لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، والمساعي بشأن استكمال خطوات المصالحة الفلسطينية...
بين كل الملفات في ظل الهبّة الفلسطينية أو الحراك الفلسطيني أو الانتفاضة الفلسطينية، والنتائج المعوّلة على الشبان الفلسطينيين لتغيير المعادلة، ماذا يقول وزير الخارجية الفلسطيني الدكتور رياض المالكي، هذا ما نحاول إماطة اللثام عنه في حوار مطوّل ومتشعّب وجريء مع الوزير المالكي، الذي حطَّ الرحال في زيارة خاطفة إلى لبنان للمشاركة في احتفال يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، الذي أُقيم في "بيت الأمم المتحدة" - الإسكوا ببيروت، ولقائه رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الوزراء تمام سلام ووزير الخارجية جبران باسيل، في زيارة رافقه فيها السفير الفلسطيني في لبنان أشرف دبور...
وفي ما يلي نص الحوار مع الوزير المالكي...
تأثيرات الهبّة الفلسطينية
* تمرُّ القضية الفلسطينية اليوم بظروف دقيقة، الحراك الفلسطيني أو الهبّة أو الانتفاضة الفلسطينية متواصلة في ظل إجراءات الاحتلال الإسرائيلي القمعية، إلى متى يمكن أنْ تستمر، وماذا يمكن أنْ تحقّق؟
- أسباب الهبّة تعود إلى أنّ هناك مجموعة من أبناء الشعب الفلسطيني الذين ساءت بهم الأوضاع، وشعروا بأنّ المستقبل أصبح مغلقاً أمامهم، آمالهم بالحرية والاستقلال تلاشت مع الوقت، وبالتالي خرجوا للتعبير بشكل عفوي تلقائي عن احتجاجهم على هذه الأوضاع، وعن انتقادهم لفشل القيادات الفلسطينية عربية إسلامية ودولية لإخراجهم من هذا الوضع المعقّد، الذي أصبح وضعاً دائماً، وللتعبير عن عملية احتجاج تبدأ بالطعن ورمي الحجارة، وتنتهي بعمليات الدهس.
هل هذه سوف تدوم، كل ذلك يعتمد على مجموعة من العناصر، ولكن يجب أنْ نحدّد:
- أولاً: إنّ هذه الهبّة محصورة فقط بفئة عمرية محدّدة ما بين 13-22 سنة، ولا تشارك فيها باقي الفئات الأخرى من أبناء الشعب الفلسطيني.
- ثانياً: هذه الهبّة ليست لها قيادة توجّهها وتديرها.
- ثالثاً: إنّ هذه الهبّة غير مدعومة بشكل مباشر من قِبل الفصائل أو الأحزاب السياسية الفلسطينية.
ما يجعل هذه الهبّة معرّضة في أي لحظة تحت ظروف خاصة، قمعية إسرائيلية وغيرها، إلى الاختفاء والذوبان، أو إلى التصعيد، ومن الصعب تحديد استمرارية أو عدم استمرارية هذه الهبّة، لأنّ لا أحد كان يتوقّع انطلاقها أو محدوديتها بهذا الشكل أو بآخر.
نشعر تماماً بأنّ هناك تأثيرات أصبحت تمس الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وأصبح هناك انكشاف واضح لمدى فشل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالقدرة على استكشاف بشكل مسبق مثل هذه المحاولات، وبالتالي إظهار مدى عجز الأجهزة الأمنية عن توفير ما هو مطلوب من حماية أمنية للإسرائيليين، ما كشف مدى ضعف هذه الجبهة الداخلية، ومن شأنه أنْ يعزّز في تداعيات مثل هذه الهبّة على مستوى تأثيراتها على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ورغم العمليات المحدودة، إلا أنّه لا يجب أنْ نقلّل من حجم تداعياتها وتأثيراتها النفسية على الجبهة الداخلية، بحيث إنّ هذه التداعيات تتضاعف بشكل كبير بسبب انكشاف حالة الضعف الموجودة لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في إحباط مثل هذه العمليات.
تخبّط القيادة الإسرائيلية!
* هل سيتّخذ الاحتلال الإسرائيلي قراراً بإقرار الحقوق الفلسطينية، لتجنّب الهبّة الفلسطينية وتخفيف وطأة ما يجري داخل المجتمع الصهيوني؟
- قراءتنا الآن للقيادة الإسرائيلية بأنّها أمام قرار مهم، ولديها مساران:
- الأوّل: أنْ تدّعي بأنّ لديها ما يكفي من القدرة ومن السلاح كي تقضي على هذه التحركات، خاصة أنّها ليست منظّمة وليست مدعومة من فصائل، وهي تعتقد بأنّ لديها ما يكفي من الأسلحة ومن العتاد ومن الأجهزة الأمنية، ومن التواجد العسكري والاستيطاني كي تقضي على هذه العملية، والحل من وجهة نظرها هو حل عسكري، والتصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والعقوبات الجماعية، والاجتياحات للضفة الغربية والإغلاقات لكل المدن والقرى والمخيمات والقمع والاعتقال، يعتقدون بأن مثل هذا التصعيد قد يكون ناجحاً، خاصة أنّه نجح في تجارب سابقة، وهذا المسار يدعمه السياسيون الذين يعتقدون بأنّ الحل العسكري هو الأنجع.
- الثاني: مسار غريب تدعمه القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، والتي تقول بأنّ الحل يجب ألا يكون عسكرياً، بل يجب أنْ يكون سياسياً، وهذا هو التناقض الحقيقي الموجود الآن داخل المجتمع الإسرائيلي، وعلى مستوى القيادات الإسرائيلية، القيادات السياسية في "إسرائيل" تطالب بحل عسكري، فيما القيادات العسكرية والأمنية تطالب بحل سياسي، وهذه القيادات العسكرية والأمنية تدرك تماماً عجزها عن مواجهة هذه الظاهرة، وضعف كل إمكاناتها رغم تفوّقها على المستوى الأمني والعسكري على الفلسطينيين مئات المرات، إلا أنّ هذا التفوّق يصبح عاجزاً أمام عدم وجود الخبر والمعلومة المسبقة اليت يتم الحصول عليها عبر طرق استخباراتية عديدة، حتى يتمكّن الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية من التفوّق علينا، وغياب هذه المعلومة لدى الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، هو الذي أظهر عجز هذه الأجهزة، لهذا السبب فإنّ الأجهزة تدفع باتجاه حلول سياسية وليست عسكرية.
وأعتقد بأنّه إذا استمرت هذه الهبّة لشهر آخر، وتبيّن خلال هذه الفترة أنّ الحل العسكري لم يعد ناجحاً في منع عمليات الطعن أو الدهس، هذا سوف يُضعِف نتنياهو سياسياً، ليس داخل الائتلاف الحكومي، وإنّما بين أبناء الشعب الإسرائيلي، ما سوف يضطره في ذلك الحين، إما إلى أنْ يبحث عن ائتلاف آخر، أو أنْ يغيّر من سياسته حتى لا تتم إدانته من قِبل أبناء الشعب الإسرائيلي، لأنّه لم يعد قادراً على توفير الأمن والآمان لهم كما وعدهم في الحملة الانتخابية الأخيرة.
صدع داخل الحكومة الإسرائيلية
* هل تعتقد بأنّ المجتمع الإسرائيلي سيكون أمام انتخابات جديدة، وأنّ خللاً ما سيؤدي إلى انهيار تكتّل نتنياهو داخل الحكومة أو داخل حزبه؟
- هناك مؤشرات الآن عن وجود صدع صغير ما بين رئيس حزب "الليكود" بنيامين نتنياهو كشخص وليس كحزب مع ما يُسمّى برئيس حزب "البيت اليهودي" نفتالي بينيت ومجموعته، ووزير الإسكان عضو من حزب "البيت اليهودي" أوري أرييل والآخرين، هناك بعض الصدع الذي بدأ، وعندما صرّح بينيت بأنّه قد صوّب رصاصة بين عيني نتنياهو، كان يحاول أنْ يقصد بأنّه الآن يتوجّه لضرب نتنياهو بشكل مباشر، وأنّ هناك نقاطاً خلافية في هذا الموضوع، في حال استمر هذا الصدع وتوسّع ما بين "البيت اليهودي" و"الليكود"، إنّ نتنياهو قد يقدم على خطوة وبينيت على خطوة أخرى.
بينيت بدأ يهدّد بالانسحاب من الحكومة، وهو يعتقد بأنّ انسحابه من الحكومة قد يُسقِطها، لكن نتنياهو يعتقد بأنّ انسحاب بينيت قد يسهّل ويعجّل دخول زعيم حزب "العمل" يتسحاق هرتسوغ إلى الحكومة، وحتى أيضاً دخول زعيم حزب "هناك مستقبل" الوسطي يائير لبيد إلى الحكومة، وهذا سوف يغيّر في الطابع الحالي للسياسات والتوجّهات الإسرائيلية، خاصة في كيفية معالجة الهبّة الحالية، وإذا ما خرج غلاة المتطرّفين، كما هو حال بينيت وأرييل ودخول أشخاص مثل هرتسوغ ولبيد - وأنا لا أريد أنْ أضخم الحالة السلاماتية التي يمثّلها هرتسوغ ولبيد - لكن دخولهم سوف يغيّر في التوازن داخل الائتلاف الحكومي، بحيث سوف يدفعون باتجاه البحث عن حلول سياسية، بدلاً من الحلول العسكرية والانفصال أيضاً، فقد تحدّث لبيد عن انفصال من طرف واحد عن الفلسطينيين في الضفة الغربية، هذا سوف يغيّر المناخات السياسية داخل "إسرائيل"، وقد يقنع نتنياهو بالعودة إلى التفكير في كيفية التعاطي مع الهبّة الحالية في داخل الأراضي المحتلة، عبر حلول سياسية في كيفية تخفيف حدّة التوتّر، حتى في التعاطي مع المقترحات الأميركية بالعودة إلى المفاوضات، كل ذلك يعتمد على ما سوف يحدث بخصوص الهبّة الفلسطينية خلال الشهر المقبل، كل هذه المتغيّرات في "إسرائيل" من سياسات ومن ائتلاف حكومي ومن قرارات باتجاه الحل السياسي أو العسكري، الذي يحدّدها هؤلاء الأطفال والشباب الفلسطينيون، الذين يتصرّفون لوحدهم بواعز الدفاع عن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية.
إغلاق باب الأفق السياسي
* ماذا حمل وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الرئيس محمود عباس، وهل ما زال الوقت يُتيح للإدارة الأميركية تنفيذ أي شيء بشأن القضية الفلسطينية؟
- أنا أشك في ذلك، رغم أنّنا ندرك تماماً أنّ الوزير جون كيري وحتى الرئيس الأميركي باراك أوباما معنيان بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، لقد كانا منذ البداية مهتمان بإيجاد مثل هذا الحل، ويتمنيان تحقيق ذلك قبل انتهاء ما تبقّى من عمر الإدارة الأميركية الحالية، إلا أنهما أصبحا على قناعة بأنّ الظروف الحالية التي تحكمها طبيعة الائتلاف الحاكم في "إسرائيل" لا تسمح ولن تسمح لأي انطلاقة للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية برعاية أميركية، وهذا ما قاله الرئيس أوباما بعد لقائه نتنياهو (بتاريخ 9-11-2015) في واشنطن، وهذا أيضاً ما أكده نتنياهو شخصياً بعد لقائه مع الرئيس أوباما في نفس المكان، بأنّه لا يوجد هناك أي أفق لإمكانية العودة إلى العملية التفاوضية ضمن ما تبقّى من فترة زمنية. هذا يغلق الباب، وفي حال أغلق باب الأفق السياسي، فإنّ ذلك يضعنا في وضع صعب جداً، نحن كقيادة فلسطينية وشعب فلسطيني، وحتى كأمة عربية للبحث في ما تبقّى من آفاق مختلفة.
وبالنسبة لنا كانت زيارة كيري هي الإشارة النهائية لإغلاق هذا الملف بشكل كامل؛ فكيري لم يكن قادراً على أن يُقنع "إسرائيل" الوفاء بالتزاماتها ضمن هذه الاتفاقيات، وهذا أيضاً أصبح أكثر وضوحاً، وعليه أصبحت الخيارات محدودة، والرئيس قال في خطابة في "الأمم المتحدة": "إذا إسرائيل لم تلتزم بما عليها من اتفاقيات، لن نكون الوحيدين الذين سوف نفي بمثل هذه الاتفاقيات، بما فيها التنسيق الأمني"، وهناك قرارات للجنة السياسية في "منظّمة التحرير الفلسطينية" وقرارات لـ"المجلس المركزي" تطالب بإعادة النظر في كافة العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع الجانب الإسرائيلي، وبالتالي لا تستطيع القيادة الفلسطينية أنْ تؤجّل البحث في هذا الموضوع إلى مرحلة أطول من ذلك، ونحن كسلطة فلسطينية لم نعد قادرون على تمثيل أبناء شعبنا وتقديم الخدمات الأساسية لهم، ونقلهم من الاحتلال إلى الاستقلال، إذاً ليأتي نتنياهو ويستلم هذه المسؤوليات كونه سلطة احتلال ومن واجبه - حسب "اتفاقيات جنيف" - أنْ يوفّر الأمن والأمان والرفاهية لأبناء الشعب الفلسطيني، بدلاً من أنْ نقوم نحن بذلك، طبعاً كيري قال: "لن نسمح بذلك، ولن نسمح بأنْ تتهاوى هذه السلطة، ولن نسمح بأنْ تتغيّر الظروف، نحن سوف نحافظ على ما تم إنجازه على مستوى الكينونة الفلسطينية، وسوف نعمل كل ما لدينا من إمكانيات لتغيير من الوضع القائم"، وطلب فترة زمنية من أجل أنْ يبذل جهداً مع الجانب الإسرائيلي، والعودة من جديد لنا ببعض المخرجات.
هذه سياسة كيري، سياسة مماطلة في الوقت والتأخير، لم تعد جدية بالنسبة له ولا مقبولة بالنسبة لنا، لهذا السبب بعد عودة الرئيس "أبو مازن" من مشاركته في "قمة تغيير المناخ" في باريس، سوف تتم دعوة القيادة الفلسطينية الموسّعة لاتخاذ الخطوات والقرارات المناسبة، وقد بدأت اللجنة التحضيرية التحضير لاجتماعات "المجلس الوطني"، وكل ذلك يعطي إشارة واضحة لـ"إسرائيل" والإدارة الأميركية، بأنّنا لم نعد ننتظر، ولم نعد مستعدون لأنْ نعطي المزيد من الوقت، ولم نعد مستعدون لأنْ نكون الوحيدين الذين نعمل على تنفيذ التزاماتنا من طرف واحد، سوف نأخذ مواقف جديدة وواضحة في ما يتعلق أيضاً بمراجعة طبيعة العلاقة مع "إسرائيل"، بما فيها الرسالة المشتركة التي تمت بين الرئيس الراحل ياسر عرفات وإسحق رابين، حول الاعتراف المتبادل، وكل هذه القضايا أصبحت قضايا سوف تُطرح على الطاولة، وستكون مدار بحث ونقاش على مستوى القيادة الموسّعة للشعب الفلسطيني، وعلى مستوى التحضيرات لـ "المجلس الوطني الفلسطيني".
المسعى الفرنسي وأهداف التفجيرات
* هل تعوّلون كثيراً على المسعى الفرنسي في "مجلس الأمن"، وهل تعتقدون بأنّ التفجيرات في فرنسا تحمل بصمات إسرائيلية إلى الفرنسيين؟
- في البداية كانت هناك مبادرة باتجاه "مجلس الأمن" بخصوص مشروع قرار يضع سقفاً زمنياً لإنهاء الاحتلال، ومرحلة انتقالية قد تصل إلى 18 شهراً، من خلالها يجب الوصول إلى حل نهائي بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، وقبل ذلك انعقاد مؤتمر دولي تحضيري للجنة متابعة لكل العملية السياسية، وبعد أنْ طرح الفرنسيون هذه الأفكار، ناقشناها على المستوى الفلسطيني وقدّمنا ملاحظاتنا، ومن ثم تمّت مناقشتها على مستوى اللجنة الرباعية، واجتمعنا مع وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أكثر من مرّة، وناقش وزراء خارجية اللجنة الرباعية المشكّلة من مصر، الأردن، المغرب، فلسطين والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، كل هذه القضايا، وحتى ناقشنا مسودّة مشروع القرار الفرنسي المقدّم، ووضعنا ملاحظاتنا كاملةً، لنكتشف بعد ذلك، أنّ هناك تراجعاً في الموقف الفرنسي بخصوص مشروع القرار، بعد أنْ اكتشف الفرنسيون أنّ الإدارة الأميركية ضد مشروع القرار هذا، وأنّ "إسرائيل" هي ضد مشروع القرار بقوّة.
ما حدث بعد ذلك عندما ذهبنا إلى الجمعية العامة لـ"الأمم المتحدة"، وبعدما تبيّن لمكوّنات الرباعية أن فرنسا تريد أنْ تشكّل آلية جديدة خارج الإطار الرباعي، حاولت مكوّنات الرباعية أنْ تخطف هذه الفكرة وتربطها بالرباعية، ويبدو أنّه تحت الضغط الكبير من قِبل المجموعة الرباعية، وجدت فرنسا نفسها توافق على هذا الإطار، بحيث عُقِدَ اجتماع على هامش الجمعية العامة للرباعية، وأصدرت الرباعية أولاً بيانا سياسيا، وبعدها دعت تلك الدول العربية، باستثناء فلسطين، وهي نفس مكوّنات الرباعية العربية: مصر، الأردن، المغرب، السعودية، تونس بالإضافة إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، كل منهم سمح له أنْ يتحدّث 3 دقائق في ذلك الاجتماع، حتى يتم فقط تأكيد أن بعض الدول العربية قد شاركت وتكلمت، ولم يؤثر على إخراجات الاجتماع، وعلى بيان الرباعية، الذي كان قد صدر قبل دعوة الأطراف العربية للدخول.
لقد تم إجهاض المبادرة الفرنسية بالكامل وإعطاء بعض الفتات لبعض الدول، بما فيها العربية بأنْ تُدعى لاجتماعات على هامش الاجتماعات الرباعية، ما قد يرضى به البعض، وقد لا يرضى به البعض الآخر، وهذا هو الإطار، في مثل هذه الأمور واضح تماماً بأنّ هناك جهوداً كبيرة تُبذل لإضعاف أو إفشال أي محاولة تأتي من قِبل فرنسا أو أي دولة أخرى لتقديم أفكار من شأنها أنْ تفعّل الملف الفلسطيني في "الأمم المتحدة"، ويبدو أن هناك محاولات لعدم تفعيل ذلك الملف، وأي جهود تبذل فرنسية أو غير فرنسية يتم إجهاضها بشكل كامل، وهناك آليات تتخذ على هذه المستويات.
أعتقد بأنّ المبادرة فرنسية لم تعد قائمة، خاصة بعد التفجيرات الأخيرة، وواضح أنّ الرسائل كانت هذه المرّة أقوى بكثير من الرسائل التي وُجّهت إلى فرنسا في "الأمم المتحدة"، والآن واجهت فرنسا تحدياً آخر على مستوى الإرهاب، حتى وإنْ لم يكن منسّقاً، قد يكون رد "داعش" أو غيرها على الملف الفرنسي في الوضع في سوريا، لكن كل إنسان يستطيع أنْ يقرأ بأنّ كل ما تم في "الأمم المتحدة" أو التفجيرات في فرنسا، الهدف منها هو إضعاف الدور الفرنسي وشله، ومنع فرنسا من أن تكون مبادرة في اتخاذ أي خطوة خارج إطار التفكير الرباعي أو التفكير ضد الاحتلال الإسرائيلي.
أهمية دور مصر
* تضطلع مصر بدور بارز بشأن القضية الفلسطينية خاصة رعاية المصالحة، ومبادرة الهدنة التي أوقفت العدوان على قطاع غزّة صيف العام 2014، ماذا بشأن المصالحة والهدنة وإعادة إعمار غزّة؟
- نقدّر تماماً موقف الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي تدخّل بناءً على طلب من أخيه الرئيس "أبو مازن" لتقديم مقترح مصري سريع من أجل وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة خلال شهر تموز/يوليو 2014، ودائماً كنّا نقول بأنّ ما يتعلّق بملف قطاع غزّة مرتبط بحالة الانقسام التي بدأت بالانقلاب العسكري الدموي الذي قامت به حركة "حماس" ضد الشرعية الفلسطينية، وتم تقديم هذا الملف من قِبل جامعة الدول العربية إلى مصر كي تتحمّل مسؤولية متابعة هذا الملف، وحاولت مصر مراراً أنْ تقوم بهذا الدور، إلا أنّ تدخلات بعض الدول الأخرى حاولت أنْ تحرف مسار هذا الملف عن إطاره المصري إلى إطارات أخرى، وكانت هناك محاولات أيضاً من قِبل حركة "حماس" كي تدفع بهذا الملف إلى إطار آخر خارج الإطار المصري، لم تنجح هذه المحاولات، وبقي الملف ضمن الإطار المصري.
"المؤتمر الدولي" من أجل إعادة إعمار غزّة عُقِدَ في مصر، التي تبنّت هذا المؤتمر، والرئيس السيسي هو الذي افتتحه، وعلى الرغم من الجهود التي تُبذل من قِبل القيادة الفلسطينية والحكومة الفلسطينية في تسهيل وترجمة التزامات هذه الدول في عملية إعادة الإعمار، إلا أنّ المعطيات الذي لدينا وبعد مرور عام ونيف لم يتم الالتزام بأكثر من 30-35% من الالتزامات المالية التي تقدّمت بها الدول المانحة، وبذلنا كحكومة فلسطينية جهوداً جبارة في متابعة هذا الموضوع مع "الأمم المتحدة" وغيرها من أجل تسهيل مثل هذه العملية، ونقول بكل وضوح بأنّ عملية الترميم للمنازل التي هُدّمت جزئياً استكملت بالكامل، وعملية إعادة ربط شبكة الكهرباء وشبكة المياه استكملت بشكل كامل على حساب ونفقة السلطة الفلسطينية، أما في ما يتعلق ببناء ما تم هدمه كاملاً ونحن نتحدث عن 12 ألف منزل، ما زلنا في المراحل الأولى، وهناك محاولات حثيثة لمتابعة التزامات الدول بدفع المساعدات لعملية إعادة الإعمار، وهناك بعض الدول تضع شروطاً وأساسها أنّ السلطة الفلسطينية يجب أن تكون مشرفة بالكامل على المعابر إلى قطاع غزّة، كما ذلك المعابر التي تربطها بـ"إسرائيل" تحديداً إيريتس وكرم أبو سالم أو المعبر الآخر التي يربطها بمصر، وحتى هذه اللحظة "حماس" هي التي لا تزال تسيطر على قطاع غزّة، ورغم كل ما يُشاع عن وجود "حكومة وفاق وطني" تمثّل الجميع وتعمل في غزّة، إلا أنّ "حماس" ما زالت لديها حكومة ظل، إنْ لم تكن هي الحكومة الفعلية في قطاع غزّة وتنفّذ كل ما ترغب وتمنع "حكومة الوفاق الوطني" من العمل، وبالتالي الوجود الحمساوي في قطاع غزّة هو الذي يحول دون أنْ تُستكمل كافة الإجراءات، وأنْ تتم السيطرة من قِبل السلطة الفلسطينية على المعابر، وفشلنا في السيطرة على المعابر بسبب رفض "حماس"، وهو الذي يُعيق التزام العديد من الدول المانحة في تقديم ما التزمت به من أموال من أجل إعادة الإعمار، فالتعطيل هو لعدم سيطرتنا على المعابر، وسببه أنّ "حماس" ترفض أنْ تتخلّى عن السيطرة على تلك المعابر.
تغيير أولويات الحكومة
* عندما شُكّلت حكومة الوفاق الوطني في حزيران/ يونيو 2014 كانت لمدّة زمنية محدّدة للتحضير لإجراء الإجراء الانتخابات داخل الأراضي الفلسطينية، لكن تغيّرت مهام الحكومة، فهل أنتم راضون عن هذه الحكومة، وما الذي يُعيق إعادة تشكيل حكومة جديدة؟
- الحكومة شُكّلت لهدف واحد هو التحضير للانتخابات، وفاجأتنا حركة "حماس" بعد أيام قليلة باختطاف 3 من المستوطنين في الضفة الغربية ومن ثم قتلهم، ما وضعنا في وضع صعب عندما تم الاعتداء على قطاع غزّة في شهر تموز/يونيو من ذلك العام، وتغيّرت كل الأولويات، وبعد التدمير الهائل الذي أقدمت عليه "إسرائيل" ضد القطاع، لم تعد الأولوية الحديث عن انتخابات بل أصبح الحديث عن حماية أبناء شعبنا الفلسطيني وتقديم الخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزّة، بعد أنْ دمرت البنى والخدمات الأساسية، وكيفية تحمّل مسؤولية إعادة إعمار القطاع، وأصبح هناك توافق بين حركتَيْ "فتح" و"حماس" وباقي الفصائل بأنْ تصبح أولوية الحكومة هي إعادة إعمار غزّة وتقديم الخدمات، ووضعت الهدف الأول لـ"حكومة الوفاق الوطني" الانتخابات إلى مرحلة لاحقة.
ومن المهم التحضيرات التي بدأت قبل أيام من أجل الدعوة إلى اجتماع "المجلس الوطني"، وتحدثت اللجنة التحضيرية عن توجيه الدعوة لحركتَيْ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" للمشاركة، والرئيس "أبو مازن" يقول دائماً في كل لقاءاته أكانت مع مسؤولين فلسطينيين عرب أو أجانب بأنّ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" هما جزء لا يتجزّأ من أبناء الشعب الفلسطيني - بغض النظر عن القضايا الخلافية التي توجد ما بين الفصائل المختلفة - ويجب أنْ يتواجد هؤلاء في اجتماعات "المجلس الوطني"، وفي تحمّل مسؤولياتهم حيال القضايا القومية الأساسية الوطنية الكبرى، ولهذا السبب الرئيس "أبو مازن" مقتنع كل الاقتناع بأنّ ما يجب عمله هو دعوة كل الفصائل والفرقاء بمن فيهم حركتَيْ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" لاجتماع "المجلس الوطني الفلسطيني" وبأقرب وقت.
عضوية "المحكمة الجنائية الدولية"
* انضمّت فلسطين إلى العديد من المؤسّسات الدولية وخاصة "المحكمة الجنائية الدولية" وقدّمت ملفّات، فماذا تتوقّعون من قرارات للمحكمة؟
- الوضع في "المحكمة الجنائية الدولية" مختلف قليلاً لأنّه في اللحظة التي طلبنا فيها أنْ تكون هناك صلاحية للمحكمة في البت والنظر بالوضع السائد في الأراضي الفلسطينية، والتركيز على اعتداءات "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني وفي موضوع الاستيطان، وافقت المحكمة على النظر بذلك، ووصلتنا رسالة (بتاريخ 16 كانون الثاني/يناير 2015) وبالتالي نحن نعلم تماماً بأنّ المحكمة قد فتحت ما يُسمّى فحصاً أوّلياً، ومن جهتنا حتى نسرّع عملية الفحص الأوّلي، قمنا بتوفير 3 ملفات أساسية:
- الأول: ما له علاقة بالعدوان الإسرائيلي الأخير (2014) على شعبنا في قطاع غزّة.
- الثاني: ما له علاقة بالاستيطان، بما فيها القدس.
- الثالث: ما له علاقة بموضوع الأسرى والمعتقلين.
هذه الملفات الثلاثة قُدّمت إلى المدعية العامة والفريق الذي شُكّل من أجل النظر في ذلك، وعندما قرّروا القيام بفحص أوّلي حول الحالة في فلسطين، فإنّه من وجهة نظرهم ينظرون إلى الحالة في فلسطين من كل العوامل والمؤشرات التي تؤشر إلى الحالة في فلسطين، ويبدؤون بتضييق هذه الخيارات وفق ما يرشح من معطيات ومعلومات ودلالات قوية، ومن أجل أنْ يتم تحديد الفحوصات في عناصر أساسية محدّدة، لقد حاولنا من خلال تقديم الملفات الثلاثة مساعدتهم في حصر هذه الدراسة منذ البداية في هذه الملفات، وبعد ذلك قمنا بتقديم ملف إضافي حول عائلة الدوابشة، ومن ثم قدّمنا ملفاً إضافياً حول الهبّة الأخيرة بتفاصيلها الكاملة وبأسماء وحالات وتفاصيل مكثّفة، والهدف من كل ذلك تسريع عملية الفحص الأوّلي، وتوجيهه باتجاه عناصر أساسية يجب أنْ يركّز عليها هذا البحث، ومن خلال الاتصالات التي تمّت تبيّن لنا أنّه لا يوجد هناك سقف زمني مرتبط بهذا الفحص، هناك مراحل أربع تتم فيها عملية الفحص الأوّلي، ووفق ما قالته المدعية العامة ما زالوا في المرحلة الثانية، وهي تجميع المعلومات وفحصها، ونحن نريدهم أنْ ينتقلوا إلى المرحلة الثالثة، وهي النظر إلى مدى انسجام القوانين الموجودة في فلسطين وفي "إسرائيل" مع قانون المحكمة في ما يتعلق بهذا الشق، وإن كانت هناك إجراءات قانونية فتحتها "إسرائيل" مرتبطة بهذا الموضوع.
الملفات الفلسطينية تحدّد مستقبل المحكمة
* ما هي أهمية العضوية والحضور المباشر في "المحكمة الجنائية الدولية"؟
- أنشئت المحكمة الجنائية الدولية كي تحاكم أشخاصاً وليس دولاً، الدول تُحاكم في أماكن مختلفة، أما الأشخاص الذين يهربون من مسؤولياتهم فتتم محاكمتهم في "المحكمة الجنائية"، ولهذا السبب أردنا أنْ تتم محاكمة أشخاص، وذكرنا بالإسم ابتداءً بشخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مروراً بوزير الحرب والوزراء ورئيس الأركان ورئيس المخابرات، وكل ضابط وجندي ومستوطن، هؤلاء كلهم اقترفوا جرائم حرب، وجرائم ضد الشعب الفلسطيني، ويجب معاقبتهم، وهذا لا يتم في المحاكم الأخرى، لكن يتم في "المحكمة الجنائية".
ويجب أن نعلم:
- أولاً: إنّ المحكمة تأخذ فترة زمنية طويلة جداً في التحقيقات، وأحياناً قد تصل إلى 10 سنوات.
- ثانياً: عندما يتم اتخاذ قرار - نجدها من خلال التجربة التي ندرسها الآن بعمق - تحاسب شخصاً وفي أكثر الحالات شخصين ولا يتعدّى ذلك، ونحن لا نتحدّث عن شخص أو شخصين نحن نتحدّث عن المئات، بل الآلاف، وبالتالي هل هذا مرضي لنا؟ وهل هذا كافٍ لنا؟ خاصة بعد مرور كل هذه السنوات؟ بالتأكيد لا.
- ثالثاً: تاريخ المحكمة - على الرغم من أنّها حديثة منذ العام 2002 وحتى هذه اللحظة - واضح تماماً أنّها تركّز أساساً على إفريقيا، وأغلب التحقيقات التي فُتِحَتْ هي ضد أشخاص أفارقة سود، ما شكّل انطباعاً لدى غالبية هذه الدول الفقيرة والضعيفة، أكانت أفريقية أم آسيوية أم أميركية جنوبية، أنّ هذه المحكمة شُكّلت كي تحاكم الضعفاء ولا تحاكم الأقوياء، وأصبح ذلك انطباع.
* هل تعتبر أنّ مصير الملفات الفلسطينية هو الذي يحدّد مستقبل المحكمة؟
- بالتأكيد، هذا ما نراه، وهذا ما نريد أن ننسّقه مع الأفارقة، وهذا ما اتفقنا عليه، أنْ يكون الضغط الإفريقي داعماً للموقف الفلسطيني، ويجب على المدعية العامة - التي أكن لها كل التقدير واحترام لمهنيتها - أن تعي تماماً مدى خطورة الوضع التي تمر به هذه المحكمة ومصداقيتها، ولأنّ المحك الأساس هو في كيفية التعاطي مع الملف الفلسطيني.