الجمعة 3 أيلول 2021 12:16 م

من التأليه إلى التحقيق


الثواب والعقاب مبدأ لا غنى عنه في الحياة الدنيا وحتى في الآخرة. وقد قامت الشرائع المدنية والدينية على هذا الأساس. وعندما تطورت فكرة دولة القانون أو الحق، أصبح مؤداها أن تكون جميع السلطات خاضعة للقانون بما يشتمله من قواعد تتصاعد وصولاً إلى الدستور والمبادئ العامة ذات القيمة الدستورية وتكون بالتالي خاضعة للرقابة القانونية والمساءلة.
 
استمرت إلى جانب هذه القواعد مجموعة من القيود على المبادئ المذكورة تحت عنوان الحؤول دون استغلال الملاحقات القانونية لأسباب سياسية أو بهدف منع عرقلة عمل السلطات المعنية، وهو ما يطلق عليه اختصاراً #الحصانات. وفي لبنان الكثير منها. بعضها يؤدي غرضه ولا يعيق الملاحقة متى كانت محقة وبعضها الآخر متشدّد لدرجة الاستحالة بما يؤمن الهدف الحقيقي من إقامته ألا وهو تحصين الأشخاص شاغلي بعض المواقع الدستورية تجاه المساءلة. وقد حصل هذا التشدّد في التشريعات نفسها، كما نتج عن الممارسة بحيث بالغ أصحاب السلطة في توسيع حدود حصاناتهم في ظل غياب المساءلة الشعبية ووجود مفاهيم بالية كوصف المواقع والمناصب بالـ"مقامات"، ليس بمعنى الدلالة على الإقامة في المكان إنما بمعنى التقديس والرفعة.
 
أما ما جعل المناصب محاطة بخطوط حمر يمنع تجاوزها فهو التصاقها بالطوائف فقد تكرست المواقع بأسماء طوائف معينة بموجب التوزيع المعمول به، واستعان الجميع في تحصين أنفسهم بوسيلة فعالة تقوم على تصوير أي اتهام يوجه لهم على أنه استهداف للطائفة التي ينتمون إليها، فأضيفت بذلك حصانة "أخروية" إلى الحصانات الدستورية. هذا بالإضافة إلى ظاهرة التقديس وحتى التأليه التي يحظى بها الزعماء من جانب تابعيهم بحيث أصبح انتقاد أحدهم أو التعرّض له يلقى ردات فعل من المناصرين تشبه انفعال المؤمنين تجاه المساس بالرموز الدينية. وهذه الظاهرة راسخة في هذه البقعة من المشرق وتعود على أقل تقدير إلى زمن الممالك الفينيقية التي كانت تقدّس أو تؤلّه ملوكها. ففي صور الفينيقية مثلاً كان "ملكارت" أحد ملوكها السالفين الذي ارتقى إلى مرتبة التأليه لأنه كان المثال للملك الحامي للمدينة وشعبها والمعبّر عن هويتها. ولعلّنا ما نزال في هذا النهج أوفياء لجذورنا الفينيقية التي إن وُجدت فهي تقتصر على السيئات كما يبدو.
 
اليوم برزت مشكلة الحصانات، الدستورية والقانونية أم الطائفية، أكثر من أي وقت مضى بسبب اصطدام التحقيق العدلي بها في قضية تفجير المرفأ. والتحقيق يبدو أنه يحاول تجاوز الخطوط الحمر عبر اعتماد منحى غير تقليدي في تفسير النصوص، وفي ما يتعلق تحديداً بالادعاء على رئيس مجلس الوزراء أخذ المحقق العدلي بالاتجاه الذي يعطي القضاء العدلي الولاية الشاملة للنظر في الجرائم، والذي يعني أنه عندما تمتنع المحكمة الاستثنائية المختصة عن الملاحقة والمحاكمة، كالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي نص عليه الدستور وأناط به محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء في الجرائم التي تنتج عن إخلالهم بواجباتهم، فإنه يعود للقضاء العدلي صاحب الولاية الشامل أن يتابع دوره. إن هذا المنحى في التفسير سبق لمحكمة التمييز الجزائية أن أخذت به في قضية الوزير برصوميان العام 1999، ولكن محكمة الجنايات لم تتقيد به والأهم أن الهيئة العامة لمحكمة التمييز أقرت منحى آخر يؤكد على وجوب إعلان عدم الاختصاص لمجرد وجود اختصاص لمحكمة استثنائية كالمجلس الأعلى.
 
ما يهم من ذلك أن الانطباع السائد هو أن أصحاب السلطة يمتنعون عن الخضوع للتحقيق هروباً من الملاحقة وهم يستعملون النصوص الدستورية لتحصين أنفسهم من المساءلة. لا يمكن عملياً تغيير هذا الانطباع إلا بتفعيل النصوص والسبيل القانوني الوحيد إلى ذلك وإلى تجنب كأس المحقق العدلي المرّة هو تفعيل الاتهام ومن ثم المحاكمة أمام المجلس الأعلى.

المصدر :النهار