تبرز البطاقة التمويليّة كحلٍّ مبتكر عند بعض أفراد الحكومة، كأنّهم يخترعون الأبجديّة متمثّلين بأسلافهم من الفينيقيّين. على النقيض من تاريخنا وحاضرنا الّذي يعرفه لبنان في ريادة الأعمال والتطوّرات التكنولوجيّة الماليّة الّتي تبنّاها معظمها وطوّر بعضها، وصدّر غيرها، يحاول بعضهم خداع الشعب ببطاقة إلكترونيّة لن تبتكر حلًّا للمواطن، بل ستعود به إلى أيّام التبعيّة السياسيّة، ومحدوديّة المصادر، والاستهلاكيّة البحتة.
تهدف أيّ تكنولوجيا أو تقنيّة ماليّة إلى إيجاد الحلول الصائبة والسليمة الّتي تضمن للسوق انتعاشه وبالتالي بحثه عن سبل أوسع تطوّرًا، وتوفير الوسائط كي تدمج المحرومين وتنقلهم من حلقة الاستهلاكيّة-المنفعلة إلى حلقة الانتاجيّة-الفاعلة، التي تقوم على الاندماج الماليّ والتخطيط السليم.
يعرف لبنان منذ فترة أشدّ أزمات الفقر والعوز، لا مجاعة ولا أسراب جراد تضرب حقوله، لكن غايات نفعيّة أنانيّة تزيد من معدّلات الفقر، والبطالة، وبالتالي توسيع شريحة التبعيّة السياسيّة الّتي ستكون عاملًا حاسمًا في الانتخابات القادمة على الأبواب. فبدل أن تُعيد الحكومة قراءة عملها الاقتصاديّ، وتستفيد من جلب الابتكارات الماليّة إلى سوق العمل في لبنان، وبالتالي تزيد من عامل الثقة الداخليّ والخارجيّ، تستخفّ الطبقة السياسيّة بإمكانات اللبنانيّ، وتشلّ أيّ مبادرة لتحسين وضع البلاد خصوصًا في المناطق البعيدة عن العاصمة.
للخروج من أزمة الفقر في لبنان، الّتي باتت تطال شرائح أوسع من المجتمع بسبب ما يُفرض من كابيتال كونترول غير رسميّ، وتداعيّات تدهور الليرة اللبنانيّة، يمكن للتكنولوجيا الماليّة أن تكون عاملًا مفيدًا، فهي تخفّض تكلفة التحويلات الماليّة وعمليّات الدفع، والاقتراض بين الأفراد... لا بل قد تركب موجة العملات المشفّرة كونها أحد الحلول رغم ما يرافقها من عامل مجازفة لا يفوق بدوره أبدًا مجازفة اللبنانيّ مع البنوك التجاريّة التقليديّة. ازمة اقتصادية ومالية حادة حلها تضرب لبنان.. والحل في تأليف الحكومة
إنّ المؤشّرات الاقتصاديّة في لبنان غير دقيقة لوجود عوامل سياسيّة ما زالت تُعرقِل تشكيل الحكومة الّتي يسعى إلى تأليفها الرئيس نجيب ميقاتي، والّتي يمكن أن تكون أوّل مفاتيح الحلول الاقتصاديّة والماليّة في البلد. لكن، يبقى الابتكار هو أحد العوامل الأهمّ في تخطّي الأزمات ومعالجة الفقر والتحدّيات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة.
ومن الضروريّ على أيّ حكومة ستأتي أن تقيس الإمكانات التي تقدّمها التكنولوجيا الماليّة والاندماج الماليّ (مقدرة الأفراد والشركات في الوصول، وبتكاليف أقلّ، إلى طيفٍ واسع من المنتجات والخدمات الماليّة المفيدة والملائمة) بما تقدّمهما من محفّزاتٍ تُساعد جميع المواطنين على تخطّي عوائقهم الماليّة. إنّ أيّ مجتمع يسعى لتحريك عجلة الاستثمار والنموّ والازدهار يحتاج إلى تكافل عوامل الاندماج الماليّ جميعها: سهولة الوصول، والاستخدام، والنوعيّة، ومدى تأثيرها على الأفراد والأعمال، وتفاعلها على المستويات الثلاثة (الأفراد، والشركات، والدولة)، حينها ستقضي على الفقر والتهميش الاجتماعيّ، وارتفاع معدّلات الاستهلاك، وتنشيط الاقتصاد القوميّ.
في المشهد اللبنانيّ الّذي يتباكى على كون طرابلس من أفقر المدن على محيط البحر الأبيض المتوسّط، أو أنّ بقاعه هي من أكثر المناطق حرمانًا من المشاريع التنمويّة، وأن جنوبه استنزفته الحروب المتتالية... فهو ليس بعيدًا عن مجال التكنولوجيا الماليّة، وفي حال تسهيل تشكيل حكومة فاعلة، سيستقطب مجدّدًا الشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما اعتاد، وخصوصًا عندما تمنح الحكومة اللبنانيّة المستثمرين الإقليميّين والدوليّين العديد من الفرص الماليّة وغير الماليّة، من إعفاءات وميزاتٍ ضريبيّة تشجّع على إعادة الاستثمار، فشركات التكنولوجيا الرقميّة كانت في المركز الرابع على سلّم الصناعات اللبنانيّة.
على الدولة اللبنانيّة أن تسعى جاهدة في إعادة تأهيل البلد وتحضيره إلى حقبةٍ جديدة من العلاقات الإيجابيّة بين المواطن والمنظومة السياسيّة، وتنتهي من مسألة التضييق على المواطن الفقير لأَسره انتخابيًّا، إذ يجب عليها مساعدة المواطنين الأشد عوزًا لا في دعمهم مادّيًّا، أو التكرّم عليهم ببطاقة تمويليّة، بل في توافر شبكات الأمن الاجتماعيّ بتطبيق منهجيّات تضمن الاستدامة، والاندماجيّة، والقضاء على جميع مظاهر عدم المساواة، وكذلك توافر فرص العمل الجديدة في لبنان وخصوصًا في المناطق البعيدة وعدم احتكارها على العاصمة بيروت، للحدّ من معدّلات البطالة، وتسريع عمليّة التعافي.
ما يُنتظر من حكومة نأمل أن تُبصر النور قريبًا، هو وضع استراتيجيّات اقتصاديّة تنهض بالبلد في مرحلة حرجة جدًّا. فمن شأن التكنولوجيا الماليّة لا أن تنقذ لبنان من غرقه نحو القاع وحسب، بل أن تُعيده إلى ريادة المنطقة اقتصاديًّا وماليًّا. عندها سيتضاعف عامل الثقة على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ والاستثماريّ، كذلك المحلّي والإقليميّ والدوليّ. نتمنّى يومًا أن يكون في محفظة اللبنانيّ بطاقاتٍ إئتمانيّة كثيرة، وأن تغيب عنه البطاقة التمويليّة بغياب حاجته إلى التسوّل، وتعود أيّام "العزّ والخير والبركة والبحبوحة...".