في 19 نيسان الماضي، قبل ثلاثة أيام من بدء عيد الفصح عند اليهود، أوقف ستّة محتجّين في مكتب لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، اللوبي الموالي لإسرائيل في الولايات المتحدة، في بوسطن، بعدما ربطوا أنفسهم بواسطة سلاسل بطاولة شبيهة بمائدة عيد الفصح. تزعم مجموعتهم المسماة IfNotNow أنها "تسعى إلى مجتمع يهودي أميركي يدافع عن الحرية والكرامة لجميع الإسرائيليين والفلسطينيين عبر التوقف عن دعم الاحتلال". وكانت شاركت في تأسيسها عام 2014 سيمون زيمرمان، الناشطة سابقاً في الحركة الطالبية في مجموعة "جي ستريت" التي عيّنتها حملة بيرني ساندرز منسّقةَ وطنية للتواصل مع اليهود في 12 نيسان الماضي، ثم علّقت تعيينها بعد يومَين، في 14 نيسان، على خلفية انتشار تعليق كانت كتبته على صفحتها على موقع "فايسبوك" في آذار 2015 وجاء فيه: "بيبي نتنياهو نذل متعجرف ومخادع ووقح ومتلاعِب".
ما حدث في بوسطن أثار قلقاً شديداً لدى الجالية اليهودية الأميركية. لكنه لم يكن مفاجئاً تماماً. لكن ما جرى في مانهاتن في اليوم التالي أثار صدمة لدى اليهود الأميركيين، أو بالأحرى لدى غالبيتهم الكبرى. في 20 نيسان، دخل أعضاء مجموعة IfNotNow ردهة المبنى حيث يقع مقر رابطة مناهضة التشهير ADL. ارتدى نحو مئة ناشط قمصاناً كُتِب عليها "لا تحرير بوجود الاحتلال"، وأنشدوا أغاني باللغة العبرية. كان هذا التحرك بمثابة سهم يُغرَز في القلب، فرابطة مناهضة التشهير هي على الأرجح المؤسسة الأعز على قلوب اليهود الأميركيين، وهي تأسّست عام 1913 رداً على المجازر المنظَّمة في أوروبا الشرقية. شعارها "تخيّلوا عالماً من دون كراهية"، وفضلاً عن نصرتها لحل الدولتَين في النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، يشتمل جدول أعمالها أيضاً على الدفاع عن حقوق المثليين وثنائيي الجنس والمتحولين جنسياً، وحقوق التصويت، وحقوق أصحاب الاحتياجات الخاصة والمهاجرين، والحقوق الإنجابية للمرأة.
كذلك يشارك عدد كبير من الأشخاص الذين يريدون انسحاب إسرائيل من "الأراضي الفلسطينية" (المقصود بها في الوقت الحالي الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية)، في حملة "مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" BDS. يشكّل اليهود، بحسب تقديرات مصادر عدّة، 20 في المئة على الأقل من المنضوين في حملة المقاطعة التي تهدف إلى ممارسة ضغوط اقتصادية على إسرائيل، شبيهة بالحملة التي شُنَّت في ما مضى ضد جنوب أفريقيا خلال مرحلة التفرقة العنصرية. كتب أستاذ في بروكلين كولدج في صحيفة "النيويورك تايمس" منذ فترة وجيزة أن منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، وهي مجموعة غير ربحية مؤيّدة لحملة المقاطعة تتخذ من أوكلاند بولاية كاليفورنيا مقراً لها، "هي على الأرجح المنظمة اليهودية الأسرع نمواً في الجامعات على مستوى البلاد". وذهب السناتور الديموقراطي عن نيو جرزي، كوري بوكر، إلى حد وصف "حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" بأنها "حركة مناهضة لليهود". (نستشفّ بسهولة من تعليق بوكر أنه يقصد أن الحملة مناهضة للسامية، وعليه فإن اليهود المشاركين فيها "يكرهون أنفسهم").
بعد بضعة أجيال، ربما جيلَين أو ثلاثة، غالب الظن أن حفنة قليلة جداً من الأشخاص في أميركا الذين لا ينتمون إلى شكل ما من أشكال اليهودية "الملتزمة"، ستستمر في التعريف عن نفسها بسهولة ومن دون تردد بأنها "يهودية". وجد معهد "بيو" أن 30 في المئة من اليهود الأميركيين ليس لديهم انتماء مذهبي في حين أن 22 في المئة "ليس لديهم دين". قبل عام 1970، كانت نسبة الزواج المختلط أقل من 20 في المئة لدى اليهود الأميركيين. ومنذ عام 2000، وصلت إلى أكثر من 72 في المئة لدى اليهود الأميركيين غير المتشددين دينياً. حتى اليهودية كـ"ثقافة"، والتي لا تعني اليوم أكثر من مجرد انجذاب إلى خبز الـ"بيغل" والتهكّم والعدالة الاجتماعية، ستصبح قريباً أكثر شيوعاً بين غير اليهود منها بين اليهود، هذا إذا لم تكن أصبحت كذلك فعلاً.
يقول دوف واكسمان، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية والدراسات الإسرائيلية في جامعة "نورث إيسترن"، في كتابه "مأزق في القبيلة: نزاع اليهود الأميركيين حول إسرائيل" (Trouble in the Tribe:The American Jewish Conflict over Israel)، إن الإجماع الموالي لإسرائيل الذي كان يوحّد اليهود الأميركيين في السابق يتداعى، وإن إسرائيل تتحوّل سريعاً مصدراً للانقسام بدلاً من الوحدة بالنسبة إلى اليهود الأميركيين. وهو يعتبر أن هذا الانقسام لا يعكس فقط "التغييرات في إسرائيل وفي النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني" إنما أيضاً "تحوّلات أوسع نطاقاً في المجتمع اليهودي الأميركي".
ثمة "دعابة" يجري تداولها في أوساط اليهود الأميركيين وتعبّر كثيراً عن الواقع بحيث تفقد طابعها المضحك. السؤال: ما الفارق بين دونالد ترامب ويهودي ليبرالي. الجواب: ترامب سيكون لديه أحفاد يهود. (اعتنقت ابنة المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، إيفانكا، الديانة اليهودية المحافِظة التي ينتمي إليها زوجها، وتمارس طقوسها. تتقيّد بأحكام السبت والطعام الحلال عند اليهود، مع العلم بأنه على الرغم من أن هاتين الوصيتَين أساسيتان ولا غنى عنهما في اليهودية منذ ظهور التوراة، إلا أنه نادراً ما يلتزم بهما، بمعناهما التقليدي، اليهود الأميركيون غير المحافظين).
باختصار، اليهود الأميركيون غير المحافظين الذين يشكّلون، في الوقت الحالي، تسعين في المئة من اليهود الأميركيين، معتدلون في ما يتعلق بالنظرة إلى إسرائيل، كما أنهم يندمجون مع الآخرين، ويعقدون زيجات مختلطة، وينجبون عدداً قليلاً من الأولاد. أما اليهود المحافظون فيعتمدون موقفاً حمائياً جداً في نظرتهم إلى إسرائيل، وينجبون عدداً كبيراً من الأولاد. يشير واكسمان إلى أن نسبة الأسر اليهودية المحافظة في نيويورك ارتفعت من 13 في المئة عام 1981 إلى 32 في المئة عام 2011. ومعظمهم ينتمون إلى اليهودية المتشددة. ننقل في ما يأتي حرفياً المقطع ما قبل الأخير في الفصل الأخير من الكتاب، الذي يأتي مباشرةً بعد هذه الإحصاءات:
"يمكن أن تكون لهذا التغيير الديموغرافي المحتمل تداعيات سياسية كبيرة وطويلة الأمد على اليهود الأميركيين وإسرائيل. من شأن السياسة اليهودية الأميركية أن تتحوّل نحو اليمين فيما يتخطّى عدد اليهود المحافظين تدريجاً عدد اليهود غير المحافظين. سيصبح اليهود الأميركيون في المستقبل أكثر محافظية على المستوى السياسي، وأكثر ميلاً إلى الجمهوريين، وحتى أكثر دعماً لإسرائيل. من شأن علاقة الحب الطويلة بين اليهود الأميركيين من جهة والليبرالية والحزب الديموقراطي من جهة ثانية أن تنتهي، وسيتمكّن الحزب الجمهوري أخيراً من القيام بما حاول فعله وفشل إلى حد كبير في تحقيقه خلال العقود الثلاثة الماضية، اجتذاب الناخبين اليهود الأميركيين بعيداً من تعلّقهم التاريخي بالديموقراطيين... كما أن التديّن المتزايد لدى اليهود الأميركيين قد يؤدّي إلى إضعاف الدعم الذي يمكن أن يقدّمه اليهود الأميركيون في المستقبل للتعدّدية الدينية في إسرائيل، والحقوق المدنية للعرب، والتعايش العربي - اليهودي، والسلام الإسرائيلي - الفلسطيني، ومجوعة من القضايا الأخرى التي تحظى حالياً بشعبية في أوساط اليهود الليبراليين غير المتديّنين. يمكن أن تتحوّل الجالية اليهودية الأهم والأكثر نفوذاً في الشتات، رويداً رويداً، من معقل للقيم الاجتماعية التقدّمية وللتعدّدية الدينية اليهودية إلى حصن لليهودية الشديدة المحافظة".
هل هناك فعلاً "صراع حول إسرائيل" في أوساط الجالية اليهودية الأميركية، لا بل صراعٌ لا يُضاهى في "حدّته وبروزه"؟ يقول واكسمان إنه لا وجود لهذا الصراع. يقرّ في الفصل الرابع من كتابه: "ليس اليهود الأميركيون، في المجمل، منقسمين في آرائهم حول النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني بقدر ما يوحي النقاش العام"، موضحاً: "معظم اليهود الأميركيين وسطيون متردّدون يريدون السلام ويحبّذون بعض التنازلات الإسرائيلية بشأن الأراضي"، و"يقلقون بشأن الأمن الإسرائيلي"، وتساورهم "شكوك قوية بشأن النيات الفلسطينية". إذاً هل هناك حتى "فصلٌ" بين اليهود الأميركيين وما يُسمّى المؤسسة اليهودية الأميركية في النظرة إلى إسرائيل؟ يجيب: "أقلية من اليهود الأميركيين فقط تنتقد فعلاً سياسة المؤسسة اليهودية الأميركية في التعاطي مع إسرائيل. الأكثرية راضية إلى حد ما أو غير مدركة وغير مبالية بكل بساطة".
بعد كل ما تقدّم، خطيئة واكسمان الكبرى هي فشله في التدقيق جيداً في أسباب تلاشي اليهودية الأميركية الممثِّلة للاتجاه السائد. السبب الأساسي وراء اضمحلال اليهودية الأميركية ليس الضغوط الخارجية، بل يكمن في عاملَين داخليين: اليهودية العلمانية بطريقة لافتة، والليبرالية اليسارية التي تنتمي إليها الشريحة الأساسية من اليهود الأميركيين. يربّي الأهل غير المحافظين أولادهم على مفهومَين اثنين: "الحب لا يعرف حدوداً" و"اليهودية هي أيضاً ثقافة". لماذا يُصعَقون إذاً عندما يُغرَم أولادهم بـ"كريستوفر" أو "كريستينا" ويتزوّجونهم؟ والحاخامون غير المحافظين يعلّمون المؤمنين أن التوراة لا تتألف فقط من آيات مقدّسة منزَلة من علُ لتمجيد الله، بل تضم أيضاً "أعمالاً صالحة" مستمدّة من العقل البشري من أجل بلوغ "العدالة" و"المساواة". لماذا يرتبكون إذاً عندما يبدأ المؤمنون بالاعتراض على "دولة الأبارتيد اليهودية"؟
يؤكّد واكسمان أيضاً: "خلال العقود القليلة الماضية، أصبحت أنشطة منظمات يهودية أميركية كبرى ومواردها وطاقاتها أكثر تركيزاً على إسرائيل"، وقد دفع هذا الانشغال باليهود الشباب إلى تبنّي "أدوات جديدة للحراك وقضايا مختلفة، لا سيما العدالة الاجتماعية والبيئة. أنا أيضاً أمضيتُ أوقاتاً لا بأس بها في مجموعة من المعابد والكُنس في مختلف أنحاء أميركا، ويمكنني أن أشهد على أن أنشطة الجمعيات والراشدين الشباب والأطفال لا تركّز على إسرائيل. لا بل إنها بعيدة كل البعد عن ذلك. فالموضوع الطاغي هو tikkunolam (إصلاح العالم). حتى الخطب في رأس السنة ويوم الغفران تحضّ المؤمنين على شراء سيارات هجينة، وتدعو إلى إنشاء حمامات غير منفصلة للذكور والإناث، وتطالب بضبط السلاح. إسرائيل هامشية. لقد حضرتُ أيضاً الاجتماعات السنوية للجنة اليهودية الأميركية ولجنة "أيباك" ورابطة مناهضة التشهير في الأعوام الثلاثة الماضية. تؤدّي إسرائيل دوراً أصغر بكثير مما قد يُخيّل إليكم.
حكاية ظهور "اليهودية الليبرالية" وصعودها طويلة جداً، ولا يتّسع المقام هنا لعرضها. مع بروز العقل البشري، وبتأثير مضاعَف من الأزمة الروحية التي أحدثتها المحرقة، بدأ يُنظَر إلى الكلي القدرة بأنه أقل قدرة، وإلى التوراة بأنها أقل ألوهية. بعد التحرّر من تهديد الانتقام من عل، أصبح الله تدريجاً رحوماً عطوفاً قادراً فقط على الإشادة والتعاطف في حين أصبحت التوراة تدريجاً أشبه بمجلد يمكن انتقاء روايات ودروس منها على عجل للتأكيد على صوابية الطموحات والمعتقدات الشخصية.
انتقد بيتر بينارت في كتابه "أزمة الصهيونية" (The Crisis of Zionism) المدافعين عن إسرائيل لأنهم يتوقّعون من "الطلاب اليهود الدفاع عن الدولة اليهودية في حين أنهم لم يتعلّموا الاكتراث بما يكفي لليهودية في ذاتها".
بالفعل، عمد اليهود الألمان في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، بعد التفكير ملياً في الأكلاف المحتملة، إلى تعديل جوانب معيّنة في اليهودية انطلاقاً من هدف واضح هو الاندماج في ثقافة التنوير في أوروبا. نبذ اليهود الأميركيون في القرنَين العشرين والحادي والعشرين بسهولة معظم المعتقدات والأعراف التي تكوّنت منها اليهودية على امتداد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، لكنهم لا يستطيعون ببساطة أن يفهموا لماذا يؤدّي الاندماج في مجتمعاتهم إلى اضمحلال وجودهم. كتب كارل ماركس الذي هو نموذج عن الاندماج، والمتحدّر من سلالة مرموقة من الحاخامين الألمان البارزين، بأسلوب ساخر أن التاريخ يعيد نفسه: "في المرة الأولى في شكل مأساة، وفي المرة الثانية في شكل مهزلة". في السياق الديالكتي النهائي، يتبيّن في حالة اليهود الأميركيين أن معادلة ماركس، كما هي الحال في معظم الأحيان، تصحّ معكوسةً.