يعتصر قلب العائلات ألماً على فراق عزيز، وتتسع دائرة الحزن أكثر وأكثر مع مكانة الراحل، للتجاوز الأسرة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة وكل من عرفه، خاصة عن قرب وحتى من سمع عنه.
هذا هو حال راحلنا الحاج أمين حجازي "أبو سليم"، الذي غادرنا من دار الفناء إلى دار البقاء، وبقي كما هو في مختلف مراحل حياته، مثال للالتزام الديني السليم، في زمن كثر فيه من يستغل الدين أو يقتل ويذبح باسم الدين وهو منه براء.
برحيل الحاج أمين حجازي نفتقد ركناً من أركان مدينة صيدا، على طريقته الخاصة، والتي تفتقده هي أيضاً، لما له فيها من ذكريات.
عرفناه منذ الطفولة، لمجاورة السكن في حي الست نفيسة - صيدا، ومعرفة نجليه الشهيد سليم والشيخ نديم، وفي عمله كصاحب محل للحلويات والسكاكر داخل البلد وفي الحي القريب من مكان السكن.
وفي المساجد، هو من روادها، تعرفه جميعها وإن كان البعض منها، أضحى ركناً من أركانها، سابقاً داخل البلدة القديمة، قبل أن يصبح مواظباً على الصلاة في "مسجد الروضة" بعد افتتاحه وهو القريب من سكنه.
إلى أي مسجد تدخل تشاهد الحاج "أبو سليم" يجلس عند مدخله، مبكراً قبل حلول موعد الآذان يقرأ القرآن.
هو كخلية النحل لا يهدأ ولا يكل، وكالنحلة يتنقل من زهرة إلى أخرى، منتقياً أجود ما تفوح به، حاثاً على الجمع قول كلمة تقرب ولا تفرق، خاصة بين الإخوة والأهل الذين فرقتهم السياسية، انطلاقاً من أن نقاط التلاقي أكثر من نقاط الخلاف والتباعد.
هو الطيب الحنون، صاحب الابتسامة البشوشة، والتاجر النصوح الصادق، والعامل على إصلاح ذات البين، حتى لو كان من وقته وماله.
لكن، هذه الطيبة مرتبطة بجرأة في رفع الظلم وقول كلمة الحق أمام سلطان جائر، مهما علا شأنه، وبطشت قوته وجبروته.
هذا ما ربى عليه نجليه الشهيد سليم والشيخ نديم وأخوتهم، فكان يحث الجميع ممن وجدوا فيه الأب الحنون، على الجهاد ومقاومة المحتل الإسرائيلي وأعوانه، بعد تدنيس مدينة صيدا في حزيران 1982، واستمر حاضناً المقاومين وآوياً إياهم من أعين المحتلين والعملاء.
وعندما حاول عملاء الاحتلال استباحة مدينة صيدا مستغلين فترة حظر التجول التي فرضها الاحتلال في المدينة، في محاولة للتعرض لكرامات الناس وأعراضهم، تصدى سليم حجازي وزميله بلال عزام لهذه المجموعة، وكان يوم 15 أيلول 1982 يوماً مشهوداً في تاريخ "عاصمة الجنوب"، حيث تصديا وهما أعزلان من السلاح، إلا من إيمانهما بالدفاع عن حقوق المظلومين، وسطرا موقعة بطولية استشهد فيها بلا،ل ثم سليم غدراً بعدما بطش بالمعتدين.
وتحققت أمنية الشهيد سليم باستشهاده، وتجسد ما كان يردده: "سأكون جسراً يعبر عليه إخواني نحو الفجر الجديد"، فإذا بالشباب الوطني والمسلم ينطلق في تنظيم عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وإطلاق "قوات الفجر" الجناح العسكري لـ"الجماعة الإسلامية"، وكان ذلك جسراً للعبور إلى فجر الحرية.
كان "الحاج "أبو سليم" الصابر على ألم فراق النجل الذي ينده بكنيته، يزداد تمسكاً بمصداقية خيار مقاومة المحتل وأعوانه، ومحتضناً المقاومين كما ابنه الشهيد مستمرين مع نجله الشيخ نديم (رئيس "جمعية الاستجابة") الذي أيضاً كاد أن يدفع حياته ثمناً لمحاولة إغاثة المصابين، عندما تعرض لرصاص القنص على "بوليفار الدكتور نزيه البزري" - الشرقي في مدينة صيدا (خلال أحداث عبرا 23 حزيران 2013)، حيث استشهد مرافقه وأصيب هو بجراح، لكن ذلك لم يثنه عن مواصلة دوره.
هكذا كان الحاج أمين.. التاجر الأمين..
وسليم.. صادق وصاحب نخوة..
ونديم.. أنيس المجلس والعامل على إصلاح ذات البين..
وساجد لله سبحانه وتعالى، شاكراً حامداً..
لم تغير الأيام في جوهره على الرغم من مرارتها وظروفها العصيبة، حيث نفتقد فيها أمثال الحاج "أبو سليم" في وقت أحوج ما نكون فيه إلى أمثاله.
لكن الخير في البذور الطيبة التي رعاها، واجتمعت في رحيله - على الرغم من الاختلاف والتباين في التوجهات السياسية.
تغمد الله الراحل بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه، وألهم عائلته ومحبيه الصبر والسلوان.