الثلاثاء 23 تشرين الثاني 2021 11:22 ص

نهاية لبنان.. العيش المشترك في دولة فاشلة؟


* جنوبيات

هل يعني فشل الدولة في لبنان فشل صيغة العيش المشترك بين اللبنانيّين؟

وهل يعني نعي السلطة الفاسدة نعياً لهذه الصيغة الإنسانية النبيلة؟

صدرت في الآونة الأخيرة عدّة مقالات تربط بين فشل الدولة وفشل الصيغة. فهل هذا الربط في محلّه؟

للإجابة على هذا السؤال لا بدّ من تأكيد أمر أساسيّ ومبدئيّ، وهو وجود فرق كبير بين إرادة التعايش وإدارة التعايش. حالة لبنان في الوقت الحالي تشير إلى الفشل (بل إلى الانهيار)، لكنّ الفشل في الإدارة وليس في الإرادة. الدولة فاشلة، صحيحٌ، لكنّ المجتمع اللبناني يستعصي على الفشل ويتمسّك بحبل النجاة المتمثّل في العيش المشترك. إنّ إحياء ذكرى مجزرة تفجير المرفأ دليل جديد على ذلك.

في الأساس، ليس رجل الدولة هو رجل الزعامة. رجل الدولة يقود المجتمع في تنوّعه إلى الخير العامّ المشترك، وهذا ما يفتقر إليه لبنان اليوم. أمّا الزعيم فإنّه ينقاد للحركة الغوغائية ويركب موجتها للوصول إلى أهدافه وغاياته وتحقيق مصالحه ومصالح الجهات الخارجية التي تمسك بخيوط تحرّكه. وهذا ما يعاني منه لبنان اليوم، وكلّ يوم.

ولمّا كان المسيطرون على الدولة اللبنانية هم من فئة الزعماء، وليسوا من رجال الدولة، فإنّ لبنان يتهاوى في حفرة الفشل. وهي حفرة لا قرار لها. إلا أنّ فشل دولة الـ"ذوعماء" لا يعني فشل مجتمع العيش المشترك. ولعلّ في هذا ما يفسّر الصراع الحادّ والمتواصل بين الناس (كلّ الناس) وبين مَن هم في السلطة، كلّ مَن هم في السلطة.

تعطيل تشكيل حكومة في دولة تسقط في هاوية الفشل لا يعني فشل العيش المشترك بين اللبنانيين، بل يعني فشل رجال السلطة. فوجود أكثر من 25 في المئة من الطلاب المسلمين في مدارس مسيحية يعني أنّ العيش المشترك بخير، ويشير إلى ديمومته ومستقبله. فالتعليم تكوينٌ وليس تلقيناً.

لا يقف المواطن اللبناني أمام عيادة طبيب متسائلاً عن دينه أو مذهبه، لكنّه يسأل عن اختصاصه وإنسانيّته. وهو لا يدخل مطعماً ليتعرّف على هويّة صاحبه، بل يدخله لمعرفته بجودة طعامه ونظافة مطبخه.

ما عرف لبنان، على الرغم من كلّ المآسي التي مرّ بها، اعتداءً على كنيسة، أو على مسجد. ويوم انفجار أو تفجير مرفأ بيروت، تجسّدت إرادة العيش المشترك في وجه الموت المشترك الذي خيّم على المدينة بكلّ أحيائها، وخاصة أحياء الواجهة البحرية. ولعلّ المشاركة الوطنية العفويّة والصادقة في إحياء ذكرى المأساة، تعبِّر عن خروج العيش المشترك سليماً من تلك الجريمة التدميرية المُنكَرة.

وطوابير "الذلّ" أمام محطّات الوقود، وأمام أبواب السفارات الأجنبيّة للحصول على تأشيرة هجرة، وحتى أمام المصارف للحصول على ما تبقّى من رصيد القرش الأبيض لليوم الأسود، ليست طوابير طائفية، بل هي طوابير ضحايا من كلّ الطوائف لا يباعد بينهم سقوط العيش المشترك، بل تجمعهم المصيبة المشتركة بسلطة فاسدة وحكم ساقط.

إنّ مبدأ العيش المشترك في لبنان يكون أو لا يكون بإرادة اللبنانيين، وهو لا يخضع لحسابات الفاسدين والاستغلاليّين. أمّا تشويه إرادة العيش المشترك قولاً وسلوكاً، فذلك أمر طبيعيّ ما دامت أدوات التشويه تعمل بحرّيّة ومن دون أيّ ضوابط أخلاقية أو إنسانية أو وطنية من داخل السلطة ومن خارجها، ومن داخل الحدود ومن خارجها أيضاً. مع ذلك، تبقى إرادة العيش المشترك، من حيث المبدأ والواقع، تتدفّق من عمق الشخصيّة اللبنانية ثقافةً وتربيةً وولاءً، على الرغم من الأداء التدميريّ الذي يتمثّل في أداء السلطة الفاسدة.

لبنان الذي يكاد يختنق وهو في حفرة الفساد والفشل والانهيار، لا يستحقّ أن ينهال فوقه تراب اليأس. إنّه يحتاج إلى يد تشدّه إلى خارج الحفرة، ليس لإنقاده ليكون رقماً فحسب يُضاف إلى عدد الدول الأخرى في العالم، بل لإنقاذ مبدأ العيش المشترك في هذه المنطقة المتعدّدة الأديان والمذاهب والأعراق.

نعي العيش المشترك في لبنان هو نعيٌ للبنان الدولة. إذ ماذا يبقى من مبرّر لوجود هذه الدولة عندما تُنتزَع منها روح الحياة المشتركة؟

وإذا قُضِي على هذه الروح، فأيّ صيغة سوف تُعتمَد للتعايش الوطني بين الجماعات المتعدّدة الأديان والمذاهب في كلّ دولة من دول الشرق؟ هل تكون صيغة الدولة الدينية، على الطريقة الإسرائيلية الرافضة للآخر والمُنكِرة لوجوده ولحقوقه، هي النموذج والبديل؟

منذ مطلع الخمسينيّات من القرن الماضي ولبنان يواجه محاولات إسرائيلية متكرّرة لضرب صيغة عيشه المشترك (رسائل بن غوريون - شاريت). ذلك أنّ نجاح هذه الصيغة يدين الصيغة الإسرائيلية. فكان احتلال الجنوب اللبناني، ثمّ كان اجتياح بيروت، محاولتين فاشلتين لتحقيق هذا المشروع. ولكنّ لبنان استعصى على تينك المحاولتين. صحيح أنّه خرج منهما مثخن الجراح، إلا أنّه تماسك من جديد منطلقاً من روح العيش المشترك. وهي الروح التي حاولت أن تضربها مرّة أخرى حركة التطرّف الديني الإرهابي التي اجتاحت المنطقة العربية ممثَّلةً بتنظيم داعش وأمثاله. وقد نجا منها لبنان بفضل تمسّكه بصيغة عيشه المشترك.

من أجل ذلك، ليس نجاح لبنان العيش المشترك مهمّاً لذاته فقط، إذ إنّه ضرورة له ولمجتمعه العربي الأوسع، بل للعالم كلّه. ومن أجل ذلك أيضاً، فإنّ نعي العيش المشترك والحكم عليه بالفشل والسقوط، هو نعيٌ لأفضل ما في الحياة العامّة المشتركة من مُثُل إنسانية ومن قيم وطنية.

من الظلم أن يُحكَم على هذه الصيغة الإنسانية النبيلة من خلال ممارسات حكم فاسد. فالفساد يذهب وأهله إلى جهنّم وبئس المصير. أمّا العيش المشترك فيبقى نوراً يُستضاء به في الطريق إلى المستقبل الأفضل.

المصدر : جنوبيات