الأحد 5 كانون الأول 2021 15:26 م |
في الطريق للحرية.. عش حمام ورمان وزعرور وحفل زفاف |
* جنوبيات فيما كانت مخابرات الاحتلال الإسرائيلي في الساعات والأيام الأولى للتحرر البطولي للأسرى الستة الذين انتزعوا حريتهم من سجن جلبوع فجر السادس من أيلول/ سبتمبر الماضي، تحلل بإمكانية قيامهم بعمليات مسلحة، وتعزز تواجدها على الحدود الفلسطينية الأردنية، والفلسطينية اللبنانية خشية خروجهم من فلسطين، كان هؤلاء الأسرى منغمسين في اكتشاف البلاد وتذوق خيراتها. يعقوب قادري، أحد أبطال التحرر، يروي لمحامية هيئة شؤون الأسرى والمحررين، في الذكرى الـ19 لاعتقاله، تفاصيل شيقة عن الأيام الخمسة التي أمضاها برفقة محمود العارضة، والذي أمضى حتى اليوم 26 عاما في سجون الاحتلال. يلاحظ من رواية قادري، أن اللحظات والساعات الأولى للتحرر، كانت عكس تخوفنا الكبير عليهم، فبالرغم من تجنيد كافة أجهزة جيش الاحتلال وإعلامه والتكنولوجيا للبحث عنهم، كانوا يتجولون بين الحقول والبلدات وإن بحيطة وحذر شديدين، يتذوقون الفاكهة التي تصل إليها أياديهم، يتعبون ثم يستريحون، مشي ليلي متواصل إلى أمكنة أكثر أماناً، ورغم كل المخاطر التي واجهتهم، فقد كانوا سعداء بتلك الأيام التي عرفوا فيها طعم الحرية. يقول قادري: "ما إن خرجت من عين النفق بعد خروج مناضل انفيعات ومحمد العارضة، وجاء بعدي زكريا الزبيدي، وخامسنا أيهم كممجي، وسادسنا محمود العارضة، حتى أصبت بالدهشة عندما شاهدت نفسي أقف خارج السجن، بلا قيود، ودون أصوات غليظة تنادي "عدد..عدد"، أبراج وسجانين، كاميرات مراقبة، كلاب بوليسية، تفتيش في الليل والنهار. كنت في حالة ما بين الصحو والنوم، قلت في نفسي: "هل أنا حر؟ أم أحلم؟ لا يا يعقوب.. أسأل وأجاوب نفسي.. لا يا يعقوب أنت حر، حقيقة". ويتابع: على الفور توجهنا لقطع شارع بيسان الملتصق بسجني جلبوع وشطة، ودخلنا قطعة أرض مزروعة بالقطن وهي بمسافة عدة كيلومترات قطعناها نهرول، نضحك، نتسامر ونقول لقد فعلناها أخيراً، ثم وصلنا بيارة بوملي تبعد حوالي 15 كيلو عن السجن، قمنا باستبدال ملابسنا وتناولنا أول طعام خارج السجن وهو حبات البوملي. في حدود الفجر، يصل الأبطال الستة قرية الناعورة جنوب شرق الناصرة، يقول قادري: "استرحنا قليلاً في مسجد القرية وصلينا الفجر، شربنا الماء وغسلنا ملابسنا ومن هناك تفرقنا إلى ثلاث مجموعات، كل مجموعة مكونة من اثنين، خرجت ومحمود العارضة الى التلال والجبال القريبة من الناعورة ونحن متعبين، لكننا صعدنا أحد الجبال ودخلنا حرش به مزرعة كبيرة للأبقار، ومن باب الضحك قام محمود بطرح السلام على الأبقار "السلام عليك أيتها الأبقار، نحن أصدقاء، أنا ويعقوب، ولسنا أعداء، لا تحاولوا إيذائنا ولن نؤذيكم أبداً"، ضحكت وقلت لهن: "صدقن ما يقول فنحن أصدقاء ولسنا أعداء" فبدأت الأبقار بفسح الطريق لنا". بعد سيرهم مسافة 300-400 متر، يتفاجأ قادري والعارضة، بوصولهم معسكرا للجيش الاسرائيلي، يروي قادري: "قلت لمحمود هنا سوف نضع رحالنا لأن الاحتلال لن يصدق بأن نجرؤ على الاقتراب من معسكراته، دخلنا تحت شجرة كبيرة قريبة من المعسكر وبالقرب منها جدار ترابي حوالي 3 أمتار فقمنا بوضع كمية كبيرة من القش وبعض الأغصان على شكل مغارة تحت الشجرة ووضعنا حقائبنا تحت رؤوسنا وبدأنا نتحدث عما جرى معنا، وكنا قد اتفقنا أن يتابع الأخبار باللغة العبرية وينقل لي ما يحصل وأن أتابع الأخبار باللغة العربية وأنقل له ما أسمع لأن كل واحد منا كان له جهاز ترانستور "راديو صغير" في حقيبته وكنا سعيدين جدا ونحن نسمع كافة المحطات تتناقل هذا الحدث الكبير بكل اللغات والاحتلال يبحث عنا في كل مكان". يواصل قادري: "سرنا ليلة كاملة حتى وصلنا أطراف قرية سولم، هناك أكلنا الصبر لأول مرة وواصلنا المسير دون أن ندخلها حتى مررنا بمدينة العفولة، ومن الجرأة لدينا أننا دخلنا الى حديقة خلفية لأحد المنازل، شربنا الماء وتناولنا بعض من حبات الليمون والرمان، ثم توجهنا إلى جبل مجاور للمبيت فيه، وعندما خرج الضوء صباحاً شاهدت شجرة فسألت محمود عنها فضحك وقال هذه شجرة الزعرور الفلسطينية، أكلنا منها حتى شبعنا وكان طعمها لذيذا وبالقرب منها أيضا شجرة السماق الفلسطيني، أكلت القليل حتى أتذوق الطعم فقط". ويضيف في مسيرهم في البلاد وتحسس ترابها وشجرها وماءها: "ليلا بدأنا المسير، وإذ بنا أمام قرية لم أعرف إن كانت عربية أم يهودية؟ وكان ترجيحي أنها يهودية لأن بمدخلها بناية ضخمة، لم يكن بعلمي أنني مكثت 18 عاما بالسجن وأن الحياة تغيرت بشكل كامل في الخارج. تفاجأنا عند الساعة الرابعة والنصف بأن عدة مساجد تصدح بالأذان فضحك محمود وقال لي "ألم أقل لك أنها قرية عربية؟.. وإذ بها "إكسال" 5 كم جنوب شرق الناصرة". ومن المواقف البسيطة لكنها الكبيرة في داخل من أمضوا كل تلك السنوات الطويلة في الأسر، مناداة العارضة لقادري: يا يعقوب.. يا يعقوب.. تعال وانظر، وإذ بعش حمام بري وبه بيضة فقال هذا حمامنا الفلسطيني الأصلي، تناولنا البيضة وقمنا بتقبيلها وإرجاعها إلى مكانها. وفي أطراف القرية عثرنا على صبر فأكلت ما بين 5-6 أكواز ومحمود 12 كوز صبر، وضحكت عليه لأنه لم يشبع وأراد المزيد، ثم دخلنا القرية وطلبنا الماء من شخص ولبى نداءنا". ويروي بمشاعر إنسانية، حرم منها الآلاف من أبناء شعبنا على مدار عقود طويلة من الاحتلال: "شاهدت صبيا صغيرا يبلغ 5-6 أعوام يسير مع أمه وعدة أطفال آخرين أكبر منه فناديت الطفل، حملته وقبلته عدة مرات وكأنني أحمل طائر الطنان الصغير الجميل وسألته ما اسمك؟ فأجابني (لا أريد ذكر الاسم) وسألته هل تعرفني؟ فقال: لا. قلت له أنا ورفيقي الآن تبحث عنا كل الكرة الأرضية فتبسم الطفل دون أن يفهم المغزى والمعنى، وعاد إلى أمه فسلمت على أمه من بعيد ثم واصلت والعارضة نحو الخروج من القرية. هناك على أطراف اكسال، دق قلب قادري، حين سمع الأناشيد الشعبية والتراثية لأول مرة وشاهد أجواء الزفاف الفلسطيني: "أثناء خروجنا كان هناك عرس بالقرية يحييه الزجال الفلسطيني موسى الحافظ وأنا من المعجبين بغنائه وزجله الشعبي، فطلبت من محمود التوقف بالقرب من القاعة التي كانت قريبة من الأحراش التي نمر به حيث استمعت لمدة ساعة للزجل الذي أطربني وأسعدني، ثم واصلنا المسير باتجاه مدينة الناصرة". ويكمل قادري عن المسير وما يجدونه من أشجار تطعمهم في الطريق: "في الطريق إلى الناصرة مررنا على أحد المزارع وشاهدنا بعض أشجار التين والعنب حيث أكلنا منها وواصلنا الطريق ودخلنا إلى مزرعة أخرى وإذ بها شجر رمان قد وضع رحاله وكأنه ينتظرنا، أكلنا منه وحملنا بعض الحبات في حقائبنا وواصلنا المسير حيث قطعنا الشارع الرئيسي وانتقلنا باتجاه المدينة، وقبل الوصول إلى تخومها دخلنا إحدى بيارات البرتقال والمندلينا فأكلنا منها وبدأنا بصعود جبال الناصرة، نمنا بالقرب من حي الفاخورة دون أن نعلم وكانت ليلة جمعة، وفي النهار سمعنا خطبة الشيخ بالكامل وصلينا بالمكان". ويختم قادري رحلة التحرر والخطى بانتقالهم من حي الفاخورة إلى جبل القفزة، وهناك انقض عليهما شرطيان إسرائيليان، خلال سيرهما في بدايات المدينة، لتنتهي الأيام الخمسة، التي دونت كتاريخ مشرف لهم وللحركة الأسيرة، وكانت أقرب إلى المعجزات، والتي زلزلت منظومة أمن الاحتلال وكافة احتياطاته وإمكانياته وإرهابه وقيوده، وجعلت منه عبرة للفشل وصورة مضحكة أمام العالم الذي أخذ يطلق النكات على سجن بناه مهندسون إيرلنديون جيء بهم خصيصا لبناء أعتى سجون العالم وأكثرها تشديداً، بينما لم تمنع إعادة اعتقال الأبطال الستة من جعل حكايتهم حدث العام 2021، والذي لم تأتِ به حتى أغرب الأفلام الغربية. يُشار إلى أن الاحتلال أعاد اعتقال الأسيرين أيهم كممجي (من بلدة كفر دان غرب جنين) ومناضل نفيعات (من بلدة يعبد جنوب غرب جنين) بتاريخ 19 أيلول/سبتمبر الماضي شرق مدينة جنين، والأسيرين زكريا الزبيدي (من مخيم جنين) ومحمد العارضة (من بلدة عرابة جنوب جنين) قرب قرية أم الغنم في منطقة الجليل الأسفل في 11 أيلول/سبتمبر الماضي، وكذلك أعاد اعتقال الأسيرين محمود العارضة (من بلدة عرابة جنوب جنين) ويعقوب قادري (من قرية بير الباشا جنوب جنين) بتاريخ 10 أيلول/سبتمبر الجاري في الناصرة. ويقبع محمود العارضة ومناضل انفيعات حاليا في عزل سجن (أيالون الرملة)، وزكريا الزبيدي في عزل سجن (إيشل)، ومحمد عارضة في سجن (عسقلان)، وأيهم كممجي في عزل سجن (اوهلي كيدار) في بئر السبع، ويعقوب قادري في عزل سجن (ريمونيم). المصدر :وكالة وفا |