قبل شهر على انتهاء صلاحية التعميم 151 القاضي بسحب الودائع بالدولار على سعر 3900 ليرة لبنانية، سارع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى إصدار تعميم جديد مفاجئ حمل الرقم 601 رفع بموجبه سعر صرف الدولار من 3900 ليرة إلى 8 آلاف ليرة، على أن يُحدّد سقف السحوبات الشهرية بحدّ أقصاه 3 آلاف دولار. الاستعجال بإصدار التعميم رسم علامات استفهام عدّة أجمعت على أنه وليد توافق سياسي ترجم من خلال لقاء حاكم مصرف لبنان مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي في اليوم نفسه لصدور التعميم لتمكين حصول صغار المودعين على أموالهم بعد تعثر إقرار قانون الـ”كابيتال كونترول”.
وفيما ربط البعض هذا الإجراء بالانتخابات النيابية المقبلة واعتباره “رشوة” متسرّعة، مذكّرين بما حصل عشيّة الانتخابات السابقة عندما أقرّ مجلس النواب سلسلة الرتب والرواتب التي قصمت ظهر المالية العامة، ذهب آخرون الى التأكيد أن فشل الوعود بإعطاء “بونس” المساعدة الاجتماعية لموظفي القطاع العام والمتقاعدين، وعدم إقرار رفع بدل النقل الى 64 ألف بسبب عدم انعقاد مجلس الوزراء، دفع الرئيس بري الى الطلب من سلامة إصدار التعميم بغية التخفيف من حدة النقمة الشعبية ولتفادي تحميل فريقه السياسي المسؤولية عن التأخر في تنفيذ هذه الوعود.
ولكن المتابعين لمسار التعميم الجديد لاحظوا إقبالاً من المودعين على الإفادة منه من دون تسجيل تقلبات حادة في سعر الدولار الذي حافظ على هوامش تحركه بين 25 و26 ألف ليرة في الأسواق الموازية، في مقابل تأكيدهم أن التعميم سيسمح للمصارف بالتخلص من المودعين الصغار الذين سيتمكنون من الحصول على 24 مليون ليرة شهرياً. الى ذلك رأت مصادر مصرفية في التعميم الجديد سيفاً ذا حدّين، فهو “وإن كان يسهم في تخفيف الخسارة عن المودعين، فإنه مؤذٍ للبنانيين الذين لا تزال مداخيلهم بالليرة”. وأكدت أن التعميم لن يؤثر على المصارف، إلا أن المشكلة التي يمكن أن تواجهها (أي المصارف) هي في قدرة “المركزي” على تأمين السيولة بالليرة بالكميات المطلوبة لتغطية الطلب على السحب بالليرة، فيما تؤكد مصادر مصرف لبنان أن سقوف السحب بالليرة التي يسمح بها “المركزي” للمصارف ستبقى على حالها انطلاقاً من حرص الاول على عدم زيادة الكتلة النقدية في السوق، لافتة الى أن تحديد سقف السحوبات بـ3 آلاف دولار شهرياً يعني عملياً أنه لن تُضخ كميات إضافية وكبيرة من الليرة في الأسواق.
وترجح المصادر أن تأخر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وزيادة “الهيركات” على أموال المودعين بالدولار من العوامل التي ضغطت على الحاكم لاتخاذ القرار الذي قد يسهم بتصحيح جزئي لحجم الخسائر اللاحقة بالودائع بالدولار التي تشكل نحو 80% من إجمالي الودائع، إذ يتقلص الاقتطاع عند إجراء عملية السحوبات إلى نحو 69% من 85% قبل التعميم بموجب سعر صرف الليرة في الأسواق الموازية.
قانصو: يشرع الأبواب أمام الانهيار
يستغرب مدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو توقيت التعميم الذي ينبغي قراءته ومقاربته بدقة من الجانب الاقتصادي والمالي. ويقول إن “رفع سعر صرف الدولار المصرفي إلى 8,000 ليرة يحمل في طيّاته بالتأكيد ضخ كتلة نقدية إضافية، حتى لو افترضنا أن سقف السحوبات انخفض من 5 آلاف دولار شهرياً على بعض الودائع (أي 19.5 مليون ليرة على سعر صرف الـ3,900)، إلى 3,000 دولار (24 مليون ليرة على أساس سعر صرف الـ8,000). هذه المعادلة الحسابية البسيطة، تؤكد أن ما سيُطبع ويُضخ من كتلة نقدية بالليرة سيتجاوز بالتأكيد حجم الكتلة التي كانت تُضخ قبل تعديل التعميم 151، هذا من دون احتساب تأثير عملية رفع سقف السحوبات على الودائع الصغيرة من 1000 دولار إلى 3 آلاف دولار شهرياً، فضلاً عن كتلة أجور شريحة لا بأس بها من العاملين في القطاع الخاص والمقيّمة بالدولار المصرفي والتي تسحب بالليرة على أساس سعر الصرف وفق التعميم 151”. وبناءً على ذلك، يعتبر قانصو أنه “إذا توافرت هذه التحويلات الشهرية، على شكل سيولة أو على شكل إيداعات مصرفية تُستعمل عبر البطاقات الإلكترونية، فإن مفعول هذا القرار سيكون له بلا أدنى شك تداعيات ملحوظة على نسب تضخم الأسعار، ولا سيما في ظل جشع التجار المستفحل الذي عززه بطبيعة الحال الغياب الفاضح للدور الرقابي من الدولة على أسعار السلع والخدمات منذ اندلاع الأزمة”.
والاهم أنه “قد يكون لهذا القرار تداعيات ملموسة على سعر الصرف في السوق السوداء، إذ إن هذا الفائض في السيولة بالليرة، سيسلك حكماً معبر السوق السوداء، ما يعني المزيد من الطلب على الدولار، وتالياً المزيد من الانهيار في سعر الصرف، إذ ستعود عملية بيع وشراء الشيكات بالليرة بقوة لتسييلها ومن ثم تحويلها إلى دولار، ما يعني أيضاً أن نسبة الحسم على الشيكات بالليرة سترتفع بطبيعة الحال”، وفق قانصو.
قرار كهذا كان ينبغي أن يترافق مع خطة اقتصادية شاملة تقوم بالدرجة الأولى على تحديد الخسائر المالية وتوزيعها ومعالجتها بعدل وبإنصاف، برأي قانصو “وإلا فنحن ذاهبون بلا أدنى شك باتجاه عملية إطفاء أو شطب ممنهجة للخسائر في القطاع المالي، سيتحمّل المودع الجزء الأكبر منها من خلال دفعه على سحب ودائعه بالعملات الأجنبية، ومن شأن ذلك أن يشرع الأبواب أمام المرحلة الثالثة والأخيرة من الانهيار الشامل، فيما من المتوقع أن يأخذ سعر الصرف مساراً تصاعدياً ودون سقوف في المرحلة المقبلة خاصة إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، وهو ما نخشاه للأسف”.