خرج أحمد الأسير من ثوب الموقوفين، وحاول أمس اعتلاء المنبر من جديد، ولو أنّه لم يعد يتقن رفع الصّوت ولا رفع إصبعه. ربّما عاد المشهد إلى مخيّلته عندما اقترب من المذياع المثبّت على المنصّة. الفرق شاسعٌ بين المحكمة العسكريّة ومنبر «مسجد بلال بن رباح»، لكن كاد «الشيخ» أن يستعيد الذكريات، فـ «التلامذة» هنا يتحلّقون حوله، من خلف القضبان» للاستماع إلى إجابات تحوّلت إلى «خطبة» تعيد سبب وجودهم إلى «حزب الله».
الموقوفون، بالنسبة له، هم ما كانوا عليه إبّان المربّع الأمنيّ: هؤلاء هم «شباب الأسير». هو لم يتوجّه إليهم بكلمة مباشرةً، إلّا أنّه تكفّل بإسداء النّصيحة واتّخاذ القرار عنهم وتحدّث بلسانهم بأنّ «مصلحتي ومصلحتهم» هي بإرجاء الجلسات إلى حين تحرّك النيابة العامّة بشأن الإخبار الذي تقدّم به والذي يتعلّق بهويّة مطلقي الطّلقة الأولى.
بهدوء وبلغة رصينة على طريقة العالِم ببواطن الأمور، استخدم إمام «بلال بن رباح» الخرطوشة الأخيرة: محاولة استنهاض «الحالة الأسيريّة» التي صارت إمّا في السّجن أو خارجه بعد إصدار الحكم أو فارّين من وجه العدالة.
لا يبدو الرجل أنّه يشعر بالذنب من كلّ هذه المسيرة بعدما صار مسؤولاً عن مصير الموجودين مباشرة، بل على العكس يحاول أن يبرئ ذمّته من إرجاء الجلسة عمداً. دغدغ مشاعرهم بـ «حرب الإلغاء» التي خيضت «ضدّنا»، وعاد إلى الحديث عن «الفئة المستضعفة»، متسائلاً كمن يتحدّث بـ«براءة»: «أنا لم أكن سابقاً على كلّ مراحل المحاكمة، ولديّ استفسار. هل تمّ استدعاء شهود أو مدّعى عليهم من «حزب الله» أو أشخاص شاركوا في المعركة؟».
يتمسّك الأسير بالضّغط على القضاء للنظر بالإخبار الذي تقدّم به وكأنّه «طوق النّجاة» الذي يثبت براءته أو يعطّل سير المحاكمة. ظنّ الموقوف أنّه بذلك يحرج رئيس «العسكريّة» العميد الرّكن الطيّار خليل إبراهيم ومفوّض الحكومة المعاون القاضي هاني حلمي الحجّار.
لم ينطبق حساب الحقل مع حساب البيدر، فبدا إمام «بلال بن رباح» مجرّداً، إلا من موقوف واحد صرخ بأعلى صوته: «أنا أؤيّد الشيخ أحمد في موضوع تحرّك الإخبار ولو بقيت في السّجن لعشر سنوات». هذا الموقوف نفسه الذي أنهى استجوابه سابقاً من دون أن يقول ما قاله أمس («مصاب بطلقٍ ناريّ من «حزب الله» في 7 أيّار»). الموقوف محمّد صلاح متيّقن من أنّ «حزب الله» نشر في الجريدة الرسميّة دعوة مناصريه للجهاد في عبرا!
أمّا غالبيّة الموقوفين فأيّدوا محاميات وقفنَ على المنصّة: عليا شلحة وزينة المصري وجوسلين الراعي وهتاف وهبي ليشدّدن على أنّ «الأسير يعيق المحاكمات ويظلم معه موقوفين بشكلٍ غير قانونيّ وغير مقبول».
لم يردّ الأسير على ما جاء على لسان إبراهيم والحجّار. ارتبك حينما أكّد له إبراهيم أنّه «إذا ثبت مشاركة أي شخص في المعارك، فإنّ مصيره سيكون كمصير أي شخص آخر، ولكنّ الإخبار منفصل عن هذه القضيّة إذ إنني لست سلطة ادعاء بل سلطة فصل»، مضيفاً: «حريّتك مقدّسة في قول ما تريده وإثبات معلوماتك بعد فتح المحاكمة، فكلامك الآن لا يُدوَّن وبالتالي لا قيمة قانونيّة له. وإذا لم نفتح محضراً وتحدّثت أنتَ، فكيف نعرف كلّ هذه الأمور؟».
على «الخطّ» نفسه، حكى الحجّار الذي توجّه إلى الأسير قائلاً: «إنّ إخبارك هو ورق، وعليك أن تثبت معلوماتك من خلال الاستجواب، ونحن من واجبنا ومسؤوليّتنا أن نستمع لكَ. أنت تأخذ الإخبار رهينة، ونحن لا نتعامل بهذه الطريقة».
تقدّم إبراهيم والحجّار على كلام الأسير، من دون أن يغيّر رأيه قيد أنملة، وأبقى على التأكيد أنّه مقتنع بموقفه وموقف وكلاء الدّفاع عنه بالامتناع عن حضور الجلسات.
إذاً، ليس الإرجاء مرتبطاً باتّهام «حزب الله» بالمشاركة في معركة عبرا، خصوصاً أنّ أحد الموقوفين اعترف سابقاً داخل «العسكريّة» بهويّة «الأسيريين» الذين توجّهوا إلى الحاجز قبل اندلاع المعركة وافتعلوا الإشكال مع الضبّاط والعسكريين، مشيراً إلى أن أمجد الأسير (شقيق أحمد الأسير) هو أوّل من أطلق النّار على الضّابط وأرداه قتيلاً حينما رفض الأخير إزالة الحاجز.
الأسير يضغط للفصل
قالها الأسير «من الآخر» بالإيحاء: «لن أسير بالمحاكمة إلّا بشروطي»، وإنّما هو حتماً يريد السير على خطى نعيم عباس، الذي يمنّي النفس بأن يكون اسمه مدرجاً على لائحة التفاوض بين الدولة اللبنانية و «داعش». لا أمل يلوح في أفق الأسير ولا حتى كلام بالمباشر في هذا الموضوع، ولكن كلّ ما يحصل من محاولات عدم فتح المحاكمة والاستجواب وصولاً إلى إصدار الحكم يشي بذلك.
بدا «إمام مسجد بلال بن رباح» أمس متابعاً لشتى الأمور القانونية والقضائية التي رافقت القضية. فحينما أتى الحديث عن أحد الموقوفين، جاهر الأسير بـ «نصيحة» إخلاء سبيله لأنّه سبق له وتقدّم بطلب إخلاء السّبيل منذ أكثر من عام. وأكثر من ذلك، يمتلك الموقوف «حلاً سحرياً» للأزمة تعليق مصير الموقوفين بمصيره: «أخلوا سبيلهم أو افصلوا الملفّ».
وهذا الحلّ تحديداً هو مربط الفرس، وما يريده الأسير تحديداً أن «يفكّ قيده» بارتباط ملفّه بملفّ الموقوفين الآخرين، ليبقى هو بمأمن عن «عقدة الذنب» وضغط الموقوفين فيبقى يماطل في الجلسات بأريحيّة كاملة. أعادها الأسير عشرات المّرات: «افصلوا الملف»، فيما أعاد العميد إبراهيم الرّفض أكثر منه، مؤكّداً أنّه لن يرضخ للضغوط لفصل الملفّ، خصوصاً أنّها سابقة.
يدرك إبراهيم أنّ فصل الملفّ، بعدما قام بهذه الخطوة منذ أشهر قليلة بناءً لرغبة المحامين وبعدما كانت المحاكمات قد وصلت إلى خواتيمها عندما تمّ إلقاء القبض على الأسير ليبقي على مجموعة تُتّهم بأنّها كانت مقرّبة من إمام «مسجد بلال بن رباح»، يعني إفساح المجال لأي مطلوب بالمطالبة لاحقاً بفصل ملفّه ويبقى هو من دون محاكمة. ولذلك، شدّد إبراهيم على أنّها سابقة «إذا فتحتها، فلا أحد يمكن إيقافها في ما بعد، وذلك بعد أن قمتُ بواجباتي واستخدمت الصلاحيات الاستثنائيّة وكانت المحكمة أسرع في بعض الأحيان من المحامين لإنهاء أمور الموقوفين».
«تعطيل غير قانونيّ»
ولأنّ الأسير بدا وكأنّه يصرّ على الفصل حتّى تنفيذه تماماً كما تمّ تنفيذ مطلبه في موضوع نقله من سجن الريحانيّة إلى سجن آخر، فإنّ القاضي الحجّار أوضح أنّ «أمر النّقل ليس رضوخاً وليس مرتبطاً بموقفك خلال الجلسة السّابقة أو بموقف محاميك بالاستنكاف، بل إنّه بناء لمقتضيات قانونيّة وصحيّة»، ناصحاً إيّاه بعدم اعتماد أسلوب تعطيل الجلسات «لأنّه لن يُجدي نفعاً».
هكذا حاول الأسير أيضاً تقييد المحكمة بقيده ورمي الكرة في ملعبها من دون أن يفلح في ذلك، ليكون المشهد داخل المحكمة منقلباً عمّا رسمه إمام «بلال بن رباح»: حالٌ من الغضب من قبل وكلاء الدّفاع عن الموقوفين الآخرين».
في البداية، بادرت المحامية زينة المصري إلى إعلان موقفها الرافض لتعطيل الجلسات، لتتبعها المحاميتان عليا شلحة وجوسلين الراعي اللتان أكّدتا أن تغيّب وكلاء الدّفاع عن الأسير «غير مقبول وغير قانونيّ».
وأشارت المصري إلى «أننا نحترم حقوق الدّفاع عن الأسير، ولكن هناك 30 شخصا يرتبط مصيرهم بمصير الأسير، وهذا ليس رأينا كمحامين بل رأي 30 موقوفاً، ومن الممكن ألا يتكلّم (يستجوب) الأسير أبداً، وهذا مجحف بحقّ الموقوفين»، مضيفةً: «ما بقى قادرين ننتظر»، ومطالبةً بـ «ألا يتحدّث الأسير بلسان الموقوفين الآخرين، خصوصاً أن من بينهم من لا يعرفه».
وإذ طالبت شلحة «بتسطير كتاب إلى نقابة المحامين لأن وكلاء الدّفاع استنكفوا من دون عذر قانوني»، قالت الراعي: «لدينا قناعة بأنّ الأسير لا يريد السير بالمحاكمة، وصرنا كمن يستجديه لإيجاد حلّ».
فيما أصرّ إبراهيم على قراره بعدم فصل الملفّ، مشدّداً على أن «لا تقصير من المحكمة، بل إن الأسير يعطّل عمداً الجلسات وان انزعاج المحامين يجب أن يوجّه ضدّ الأسير لا ضدّ المحكمة»، مذكراً بأنّ المحكمة لا تظلم أحداً، والمؤشّر كان الأحكام التي صدرت بحقّ بعض موقوفي عبرا مؤخّراً.
ثم أُرجئت الجلسة إلى 18 تشرين الأوّل المقبل.
محامو الأسير ينتقدون زملاءهم
في المقابل، أشار وكلاء الدفاع عن الأسير إلى أن «بعض زملائنا في قضية عبرا همهم إنهاء الملف مهما كانت النتيجة غير آبهين بمصالح وكلائهم»، مشددين على أنه «من حقنا طلب ضم الإخبار بعد التحقيق به لملف عبرا لما له من أثر على الحكم وهذا حقنا الطبيعي والقانوني وأي شخص ينكر علينا حقنا، فإنه لا يعلم في القانون شيئاً».
ولفتوا الانتباه، في بيان، إلى أنّ « دماء أبناء شهداء الجيش غالية على قلوبنا ونريد الاقتصاص من القاتل الحقيقي الذي ما زال حرا طليقا على الرغم من إدانته بالإخبار المقدّم».
إبراهيم يلتقي أهالي الشهداء: لا مساومة
بالتزامن مع انعقاد جلسة موقوفي عبرا، أمس، قطع أهالي شهداء الجيش اللبنانيّ طريق «المحكمة العسكريّة» قبل أن يعيدوا فتحها إثر انتهاء الجلسة وبعدما أرجأ رئيس المحكمة العميد خليل إبراهيم الجلسة إلى موعد غير بعيد.
وأكّد الأهالي أنّهم يرفضون التسوية على دماء أبنائهم، مطالبين بأن تقوم المحكمة بأي وسيلة لإجبار الأسير على السير بالمحاكمة.
وعلمت «السفير» أنّ الأهالي التقوا إبراهيم بعد انتهاء الجلسات الذي شرح لهم الموقف واستحالة انعقاد الجلسة قانونياً مع عدم اكتمال الخصومة أي حضور المحامين، مؤكّداً أنّ المحكمة لا تساوم ولا تفاوض على دماء أبنائهم بل العكس هو الصحيح.