الثلاثاء 11 كانون الثاني 2022 20:28 م |
التّعليم الحُضوريّ بعد العودةِ من الإجازة الشّتويّة - الواقع والتّحدّيات |
ما كادتِ الإجازةُ الشّتويّة لهذا العام الدّراسيّ تنتهي حتّى أُثيرت إشكالاتٌ عديدةٌ بخصوص نموذج التّعليم الذي سيُتّبع في ظلّ ارتفاع مُعدّل الإصابات بالفايروس المُتحوّر، ممّا أدّى إلى إرباك الأسرة التّربويّة، والتّشويش على العمليّة التّعليميّة. وتشابكت هذه الإشكالات مع الظّروف الصحّيّة المُتدهورة والآخذة بالتّفاقم يومًا بعد آخر، إذ تسبّبت الجائحة في أسوإ أزمة مرّ بها التّعليم خلال قرنٍ من الزمن، وآلت إلى إحداث صدمةٍ عالميّة في منظومات التّعليم، عداكَ عن الواقع المعيشيّ المُزري، والانكِماش الاقتصاديّ غير المسبوق، الذي قد يزيد مخاطر التّسرّب المدرسيّ ويدفع باتّجاه تقليص موازنات التّعليم، وقد يحملُ تداعيات وخيمة لا قِبل لأحدٍ بالتّنبُّؤ بها.
وقد واكبَت عمليّةَ العودة الآمنة إلى المدارس، بعد هذه الإجازة الطّويلة، تجاذباتٌ وسجالاتٌ في أكثر من اتّجاه، ولعلّ الواقع التّربويّ المُتردِّي ساهم في ترجيح قرار العودة إلى المدارس، على الرّغم من المخاطر المحدقة بهذا التّوجّه. هذا، رغم قناعتي الشّخصيّة بأنّ قرار العودةَ إلى المدارس كان الخيارَ الأفضل من ضمن جملة خياراتٍ أحلاها مُرّ، شريطة التّقيّد بتدابيرَ صحّيّة صارمةٍ. فهناك أولويّة مُلحّة تتمثّل في العودة إلى التعلّم الحُضوريِّ؛ لأنّ خسائر التّعلّم في تزايد مستمرّ.
وبما أنّ العودة قد تحقّقت، وطُويت كافّة السّجالات حتّى أجل غير مُسمّى، فإنّ التّحدّيات المنظورة في العمليّة التّربويّة كبيرةٌ جدًّا وعميقةٌ؛ فالمستوى التّعليميّ في الحضيض، والمهارات المُحصّلة دون المُتوقّع وبخلاف المأمول، والمعارف المُكتسبة زهيدة للغاية، والفاقد التّعليميّ واسعٌ جدًّا. وهذه الوقائع المُعايَنة تطرح جُملة من التّحدّيات غير المألوفة، وتتطلّب مقاربتُها وعيًا وحِنكة وحِكمة.
وإزاء هذا الواقع المرير الذي يُلقي بظلاله الكئيبة على العمليّة التّربويّة بجُملتها، كان لا بدّ من خطوات سريعةٍ لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه في هذا العام الدّراسيّ المُضطرب:
▪️يقع على عاتقِ وزارة التّربية والتّعليم مهمّة إعادةِ النّظر في المُحتوى المُقرّر لهذا العام، على غرارِ ما فعلته في العامِ الماضي، والتّخفيف من بعض الدّروس أو حذف بعض الوحدات بما يتناسبُ والمدّة الزّمنيّة المُتبقّية. كذلك عليها تفعيل بعض الاستراتيجيّات التّربويّة التي من شأنها تعويض الفاقد التّعليميّ وتجسير الفجوة الواسعة في مستويات التّلامذة. وسيكون من المهمّ فهم مدى الخسارة في التّعلّم من خلال إجراء تقييمات مُوجزة وسريعة. وبالاستعانة بهذه البيانات؛ يمكن للوزارة بعد ذلك تخصيص دعم إضافيّ وإعادة النّظر فيما تُركّز عليه المناهج الدّراسيّة كي يكون قاعدةً للانطلاق منها مُستقبلًا في تطوير وتحديث المناهج.
▪️إنّ أوّل ما يجب الالتفاتُ إليه هو المُسارعة إلى عقد ورشاتٍ تربويّة تطويريّة في المدارسِ؛ تُشارك فيها القيادة التّربويّة ومديرو المدارس والمعلّمون والمُنسّقون والمُشرِفون التّربويّون وأولياء الأمور وفريقٌ من التّلامذة وأفراد من المجتمع المحلّي؛ وتُخصّص هذه الورشات لتقييم الواقع التّعليميّ الحاليّ في كلّ مدرسة، ورصد خسائر التّعلّم، واجتراحِ الحلولِ السّريعة الّتي تتلاقى مع ظروف المدرسة وواقع التّلامذة وتتناسب والمُستجدّات الطّارئة.
▪️على القيادة الإداريّة في كلّ مدرسةٍ أن تُبادر إلى تنظيم لقاءاتٍ عاجِلة ومُخطّط لها مع المعلّمين، كلٌّ على حدَة، وبُمشاركة المُشرفين التّربويّين أو المُنسّقين في المدارس، والتّعاون في تحليل أهداف المادّة للفترة القادمة، ورصد الكِفايات الأساسيّة فيها، وإعادة هيكلة الدّراسة لتعويض الفترة المفقودة؛ والاتّفاق على خطّة واضِحة للسّير بمُقتضاها للأسابيع القادمة.
▪️ويجب أن تتضمّن الخطّة التِزاماتٌ واضِحة بـ "تفريد التّعليم"، من خلال تغيير منهجيّ يهدف إلى الاهتمام بالفرد المُتعلِّم، والمُضيّ في العمليّة التّعلّميّة بما يتناسب وقُدراته الفرديّة وسرعته الذّاتيّة. والشُّروع في اقتراح آليّاتٍ لعمليّة الدّعم التّعويضيّ، مثل الدّروس الإضافيّة، والأشكال الأخرى من الدّعم التي تُوجّه إلى الفئات من ذوي الاحتياجات التّعلّميّة الخاصّة، والفئات الأكثر عرضة للتّسرب من المدرسة. وهذا النّهج ضروريّ جدًّا لسدّ الفجوة في التّعلم غير المكتمل.
▪️ ينبغي أن تتعمّقَ أُطر التّنسيق بين الجهاز التّعليميّ وجهاز التّوجيه النّفسيّ والاجتماعيّ؛ لتقديم دروس للتّقوية، ولقاءات للدّعم العاطفيّ والاجتماعيّ؛ لمساعدة التّلامذة على المواكبة والانتظام الدّراسيّ. فالتّلاميذ ينخرطون اليوم في بيئة تعلّم جديدة، حيث تتوافر لهم هوامش أكبر من مستويات التّعلم، وتتنوّع احتياجاتهم الاجتماعيّة والنّفسيّة.
▪️ينبغي التّركيز فيما تبقّى من هذا العام على المهاراتِ الأساسيّة في كلّ مادّة، وتطويع المنهج بحيث تُعطى الأولويّة للتعلّم التّأسيسيّ، وعدم الدّخول في المواضيع الجزئيّة أو التّفريعات التي تُرهق أذهان التّلامذةِ، وتُشتّت تركيزَهم وتزيدُ العبءَ عليهم.
▪️على أولياء الأمور أن يُساهموا بفاعليّة في التّعاون الوثيق مع إدارة المدرسة والمعلّمين، ويجب أن يحشدوا دعمهم الكافي لدفع خطط المدرسة في برامجها وأهدافها، وأن يُوفّروا، بما هو مُتاح، مُستلزَمات مُتابعة التّعلّم عن بُعد.
▪️ ينبغي على المجتمع المحلّي دعم الإدارة المدرسيّة لوضع وتنفيذ الخطط التي تكفلُ توافر الظّروف الآمنةِ والصّحيّة لعودة التّلامذة إلى المدارس واستمراريّة عمليّة التّعلّم، والتّغلّب على المُستجدّات القاهِرة التي قد تحول دون انتِظام عمليّة التّعلّم.
▪️ من ضمن التّحدّيات الحاليّة التّخطيط الجدّي لتدريب المُعلّمين على تقييم الخسائر في التّعلّم، وسدّ الفجوات القائمة في هذا المجال، وامتلاك القدرة على قياس جودة ممارسات التّدريس في الفصل المدرسيّ، وتدريبهم على استخدام تكنولوجيا التّعليم، وصناعة المُحتَوى الرّقميّ، وتحليل أهدافِ المنهاج، وتبسيط المادّة التّعلّميّة، وتحليل البياناتِ، وأدوات التّقويم المُتطوّرة، ووضع حزمة وافيةٍ من الخططِ المهيكلة للدُّروس، وتوظيف التّكنولوجيا متعدّدة الوسائل (الهاتف المحمول، والذّكاء الاصطِناعيّ، والمنصّات الرّقميّة).
أخيرًا، في الوقت الذي يشكّل فيروس كورونا تحدّيات هائلة، فإنّ الأزمة ستُتيح فرصًا واعدةً لإحداث تغيير في التّعليم وإعادة النّظر في المنظومة التّربويّة، على أساس رؤيةٍ واقعيّةٍ واستشرافيّة لما ستكون عليه المدارس في المُستقبل.
المصدر :جنوبيات |