* ناجي س. البستاني
من المُفارقات الغريبة العجيبة أنّ الكثير من اللبنانيّين الذين صاروا يُشكّكون بكل شيء، بفعل التجارب العديدة السابقة المُخيّبة للآمال، تعاملوا بشيء من الحُزن مع الإنخفاض الكبير الذي لحق بسعر صرف الدولار أخيرًا، وذلك لأنّهم لم يُصرّفوا بضع مئات من الدولارات التي بحوزتهم على سعر 33000 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد، وراحوا يُطمئنون ويُعزّون بعضهم بعضًا بالقول: "الدولار سيرتفع مُجدّدًا"!. فما هي أسباب إنخفاض سعر الصرف، ولماذا الحديث عن إرتفاع مُرتقب مُجدّدًا، وهل إنخفضت أسعار السلع في المتاجر؟!.
من المَعروف أنّ إنخفاض سعر صرف الدولار يرتبط بعوامل إقتصاديّة حسّية وأخرى سياسيّة ومَعنوية، وما حصل في الأيّام الماضية من إنخفاض سريع لسعر الصرف غير مُرتبط إطلاقًا بأيّ خُطة نهوض إقتصادي–مالي، وبأيّ خُطة تعافٍ وإصلاح، وبأيّ خُطة مُساعدة دَوليّة للبنان. كل ما في الأمر، أنّ مصرف لبنان قام بضخّ كميّة كبيرة من الدولارات في السوق، عبر مدّ المصارف بها في مُقابل حُصوله على ما يُقابلها بالليرة اللبنانيّة، وذلك من خلال تعاميم مُختلفة صدرت أخيرًا، الأمر الذي تسبّب ببداية إنخفاض تدريجي لسعر الصرف. وتزامنت هذه الخُطوة مع الحديث عن عودة مُرتقبة لجلسات مجلس الوزراء، وعن إنطلاقة قريبة لجولة مُهمّة من المُفاوضات مع مُمثّلي صُندوق النقد الدَولي، الأمر الذي ترك أثرًا إيجابيًا في نُفوس المُواطنين، الذين سارع الكثير منهم لتصريف جزء من الدولارات التي يملكونها قبل أن تخسر المزيد من قيمتها. وبدلا من أن يفرح اللبنانيّون بإنخفاض سعر صرف الدولار، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس تدريجًا إنخفاضًا في مُختلف الأسعار، شكّكوا بإستدامة هذا الإنخفاض، وبلغ الأمر البعض منهم حدّ الحزن على عدم قيامه بتصريف دولاراته على سعر صرف مرتفع، وحدّ الرهان على عودة الإرتفاع مُجدّدًا ليتمكّن عندها من كسب المزيد من الليرات في عمليّات التصريف، ولو أنّ إرتفاع الدولار يعني عمليًا فُقدان القيمة الشرائيّة لهذه الليرات الإضافيّة أصلاً!.
في كلّ الأحوال، التشكيك في أنّ سعر صرف الدولار سيَعود إلى الإرتفاع، مردّه إلى غياب أيّ خُطة إقتصاديّة وماليّة جدّية، كما سبق وأشرنا، وخُصوصًا إلى أنّ إجتماعات مجلس الوزراء التي لم تبدأ أصلاً بعد، غير مَضمونة الإستمرار، حيث يتردّد أنّ من شأن طرح أيّ بنود على جدول الأعمال من خارج الشروط التي حدّدها "الثنائي الشيعي"، ومنها مسألة التعيينات مثلاً، قد يُفجّر الجلسات ويُعلّقها مُجدّدًا في المُستقبل! ويتردّد أيضًا أنّ ما قيل عن إنطلاق المُفاوضات مع صُندوق النقد في الأيّام المُقبلة غير دقيق، وأنّ الأمور لا تزال مُعلّقة على هذا المُستوى، في إنتظار إنتهاء الجانب اللبناني من تحضير ملفّاته، وفي إنتظار جُهوزيّة المُجتمع الدَولي لمد يد المُساعدة. وهنا إشارة إلى أنّ عدم تسديد لبنان للفوائد على ديونه الدَوليّة منذ أكثر من عامين، ترك آثارًا سلبيّة كبرى، بحيث أنّه سيكون من الصعب إقناع الجهات الدَوليّة بمنح أيّ قروض جديدة للبنان، خشية التنكّر مُجدّدًا لها. أكثر من ذلك، إنّ تدخّل مصرف لبنان، عارضًا الدولارات في مقابل الليرات، لا يُمكن أن يدوم لفترة طويلة على الإطلاق، لأنّ هذا الأمر-الذي أثبتت التجارب السابقة فشله الذريع، يستهلك أموال الإحتياط بسرعة كبيرة. ولكلّ هذه الأسباب، شكّك الكثيرون بإمكان بقاء سعر الصرف مُنخفضًا، وأكّدوا حتميّة إرتفاعه مُجدّدًا وفي القريب العاجل، علمًا أنّه تُوجد نظريّة مُناقضة لهذا الرأي تتوقّع أن يبقى الغطاء السياسي قائمًا لحاكم مصرف لبنان، لجهة تغطية قيامه بإستهلاك جزء من أموال الإحتياط الإلزامي، حتى إتمام الإنتخابات النيابيّة في أيّار المُقبل، وذلك لأنّ القوى السياسيّة لا تستطيع حثّ الناخبين على التصويت لصالحها في ظلّ سعر خيالي للدولار، كما كان الإتجاه قائمًا مطلع هذا الشهر. وبعد ذلك، يصبح سعر الدولار مُرتبطًا بطبيعة المجلس الجديد وبتوازناته، وبأسلوب تعاطي العالم معه، وبهويّة رئيس الجُمهوريّة الذي سيتمّ إنتخابه، وبما سيَحصل مع صندوق النقد، إلخ.
وبغضّ النظر عن مدى ثبات الإنخفاض الحالي لسعر صرف الدولار، من المُستغرب جدًا أنّ مافيات أصحاب المتاجر الكُبرى (سوبرماركت)، والتي لا تقلّ سوءًا عن مافيات الجّهات الماليّة التي تلعب بسعر الصرف، لم تقم بخفض الأسعار، وذلك لتحقيق أكبر مكاسب في أقصر فترة زمنيّة مُمكنة، ودائمًا على حساب المُواطنين. ففي اليوم نفسه الذي يرتفع فيه الدولار، تقوم الجهات المسؤولة عن المتاجر بمحو الأسعار عن السلع، وبرفعها خلال ساعات، بحجّة الحفاظ على رأس المال والتمكّن من شراء سلع بديلة في المُستقبل! وعندما ينخفض سعر الصرف، حتى بمقدار 10000 ليرة للدولار الواحد-كما حصل أخيرًا، يرفض مُمثّلو المافيات التجاريّة خفض الأسعار، ويدّعون أنّهم يحتاجون لأسابيع عدّة من ثبات سعر الصرف، للبدء بخفض تدريجي وبطيء جدًا للأسعار، بحجّة أنّهم إشتروا البضائع على سعر مرتفع، علمًا أنّ الجميع يعلم أنّ البضائع تكون مُخزّنة ومُكدّسة في المُستودعات لديهم، وهي تكفي لأسابيع وربّما لأشهر طويلة!.
في الختام، إنّه لبنان حيث تعمّ الفوضى وشريعة الغاب، وحيث لا رقابة جدّية ولا غرامات مُوجعة ورادعة، لا على مافيات الدولار ولا على مافيات المتاجر، ولا على سواهم أيضًا. والضحيّة الوحيدة هي المُواطن اللبناني الذي بات بوضع لا يُحسد عليه إطلاقًا، لأنه يعيش فقرًا مُدقعًا، ويتحسّر على مئة دولار لم يقم بتصريفها على سعر دولار مُرتفع!.