"وين صاروا؟"، سؤال عن حركات المجتمع المدني، او ما عرف بـ"الحراك المدني" يتردد منذ مدة. فعلى مراحل، اتخذت مجموعات كثيرة من وسط المدينة، مكانا دائما لها. صدحت اصوات ناشطيها "لمعالجة أزمة النفايات" أولاً، وبعدها تعددت المطالبات، تارة لإجراء انتخابات نيابية وطوراً رئاسية، الى حد وصولها الى المطالبة بـ"إسقاط النظام".
خفت وهج تلك المجموعات بعدما توسعت الشعارات والمطالبات، الى حد الضياع الكلي، فالاختفاء شبه الجزئي. من "بدنا نحاسب" إلى "طلعت ريحتكم" إلى "من اجل الجمهورية" وغيرها الكثير من تسميات اطلقت على "الحراك المدني". ناشطون كثر تنقلوا بين مجموعة واخرى. اختلفوا. تباينوا في الآراء. انقسموا في تحديد وسائل المواجهة، وتباعدوا في شعاراتهم وعناوينهم. بعضهم استمر، والبعض الآخر ابتعد. وبعض هؤلاء رفض حتى التحدث عن تجربتهم او تقويم ما قاموا به. كانوا من الوجوه البارزة والمواقف اللافتة ايضا. واليوم، يرفضون التحدث.
ربما هي من النتائج المحتمة لتلك التجربة. عندما تكون عفوية او متسرّعة، تضيع غالبا في العناوين، وصولا الى حد شبه الانطفاء.
بعد نحو اكثر من عام على تجربة "الحراك المدني"، وفيما أزمة النفايات لا تزال هي إياها، تتمدد لتنشر معها الاوباء والامراض، اين هي المجموعات المدنية؟.
تحديد الأولويات
ترفض الناشطة نعمت بدر الدين من مجموعة " بدنا نحاسب"، مقولة إن "الحراك المدني" انكفأ. هي تعتبر ان " طرق المواجهة تختلف احيانا، والظروف الاقتصادية والاجتماعية والمزاج الشعبي من العوامل المؤثرة جدا في الحراك، ولهذا السبب قد يكون الوهج خفّ".
تقول لـ"النهار": "قبل ايام قليلة، وجهنا رسالة تحذيرية الى السرايا، وبعدها اقفلنا مداخل مجلس النواب بطرق سلمية، لنوصل رسالتنا رفضا لأي تمديد ممكن، وللقول ان الشعب هو مصدر السلطات، كما اننا لم نهمل عملنا على مستوى الهيئات الرقابية والمطالبة المستمرة بتفعيلها، ان كان على صعيد ديوان المحاسبة او التفتيش المركزي عبر تقديم الاخبارات للنيابة العامة المالية والتمييزية، في ملفات حساسة كدور التفتيش المركزي والمناقصات وادارة الميكانيك".
الا ان الهمّ الاساسي لمجموعة "بدنا نحاسب" يبدو انه قانون الانتخاب، او ما تسميه بدر الدين "المشروعية الشعبية". في السياق هذا، يتم التحضير حاليا لمؤتمر عام يناقش ازمة قانون الانتخاب. تنطلق بدر الدين من التأكيد ان " الحراك المدني اثر في الانتخابات البلدية الاخيرة، ولا بد ان يؤدي دوره ايضا في الاستحقاق النيابي".
وتؤكد ان "القانون الافضل الذي نطالب به هو اعتماد النسبية ولبنان دائرة واحدة، من اجل كسر القيد الطائفي. هذا الامر الذي يساعد في تجديد الحياة السياسية وضخ دم جديد، يفسح في المجال امام خلق تركيبة جديدة تشرّع من اجل مصالح الطبقة الوسطى، لا من اجل مصالح التجار والمصارف، كما يجري حاليا"، وتشير الى ان "القانون المختلط ليس حلا بل يعيد انتاج التركيبة السياسية نفسها". وتعلّق: "نحن لا نريد اسقاط النظام، انما نريد التغيير في النظام الاخطبوطي".
هكذا، لمجموعة "بدنا نحاسب" اتجاهان من العمل، وفي خطين متوازيين: العمل الرقابي والشق السياسي - النيابي.
أما مجموعة "من اجل الجمهورية" فلها اولويات اخرى. ويعتبر المحامي مروان المعلوف انه "لا يجوز الربط ابدا بين اجراء الانتخابات وشكل قانون الانتخاب، فهذه المعادلة خطيرة. حتى المجلس الدستوري، رغم بعض اعضائه المسيّسين، سبق أن رفض هذا الربط. وكل الخطر هو في وضعنا ضمن معادلة إما اجراء الانتخابات، أو وضع قانون جديد. الأولوية اليوم، ينبغي ان تكون لاحترام موعد الانتخابات النيابية في وقتها ودورية الاستحقاقات".
لا يحبذ المعلوف القول ان "الحراك انتهى". وهو يعترف ان وهج الشارع لم يعد موجودا، إنما الحراك "موجة مستمرة، ولن تنقطع". ويقول لـ"النهار": "خلق الحراك رأيا عاما وحالة لم تكن موجودة. ان مرحلة ما بعد الحراك ليست كما قبله".
أزمة النفايات
والعناوين كثيرة، كلها تحت اسم "الحراك المدني"، وتحتل الصدارة احيانا. مثلا، لا تخفي بدر الدين انها ستترشح للانتخابات النيابية، وفي النبطية، تماما كما فعلت المرة الماضية، ولكن حين تسألها عن أزمة النفايات المزمنة والمستمرة منذ اكثر من عام، وعن الايحاء او الشعور انها باتت قضية مهملة عند "الحراك"، تجيب: "غير صحيح، بدليل اننا مستمرون في محاسبة "سوكلين" قضائيا وفي التصدي لجهاد العرب، الذي يظهر كأنه بديل سوكلين. وحاليا، نحن بصدد تقديم اخبارات في مسألة الكوستابرافا".
وتتابع: "أزمة النفايات او الكهرباء او غيرها من الشؤون الحياتية لا يمكن ان تكون بعيدة عن الجو السياسي او الطبقة السياسية الحالية، وبالتالي فان الحل السليم والطويل المدى هو في تغيير هذه الطبقة كي نستطيع معالجة شؤوننا. لا يجوز إلهاءنا ببعض القضايا، كالتوترات الأمنية، من أجل الالتفاف على القضية الاساسية وهي انتاج قانون انتخاب جديد، فيما المسؤولون يختلفون على توزيع الحصص ولا يرون الانفجار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي".
بدوره، يلفت المعلوف الى ان "ملف النفايات ليس تقنيا. ليست الزبالة ذرة نووية يصعب حلها بعد اكثر من عام. اننا نتعامل مع ملف مرتبط تماما بالفساد والصفقات، وتلك اولوية ثانية في قلب مجموعتنا. من غير المجدي بعد الدخول في التقنيات، بل علينا التوجه الى مسألة الصفقات. الكل يتذكر كيف استطاع الحراك ايقاف الصفقات المشبوهة والترحيل الشهير للنفايات، وكيف نجح في تطوير فكرة اللامركزية الخدماتية، بحيث يمكن لاي بلدية ان تكون جاهزة لمعالجة هذا الملف".
اليوم، يطالب المعلوف "بنشر كل عقود المناقصات ودفاتر الشروط والميزانيات، لئلا يبقى هذا الملف صندوقا اسود، ولئلا يتم امرار اي صفقات مشبوهة. بالامس، كان تجديد العقود بمر بسهولة. اليوم، لم يعد هذا الامر ممكنا، وبفضل الحراك".
امام هذا التعدد، اي مصير سيلقاه الحراك؟
تعترف بدر الدين بأن "بعض مجموعات الحراك المدني انتهى، والبعض الآخر يريد محاصرة التمديد لمجلس النواب، أيا يكن قانون الانتخاب"، فيما مجموعة " بدنا نحاسب" تريد الانتخابات وعلى أساس النسبية. عنوانها واضح وبالتالي لا خوف عليها، وفق بدر الدين.
ويوضح المعلوف ان مجموعة "من اجل الجمهورية"، بدأت عملها منذ عام 2013، وهي ليست بطارئة ولن تنتهي. في ذاك العام، وقفت المجموعة في وجه التمديد لمجلس النواب، ورفعت شكوى أمام الأمم المتحدة. "نحن نريد الحفاظ على مبادئ الجمهورية وبناء دولة قوية. ولعل أبرز ما اظهره الحراك كان في الانتخابات البلدية الاخيرة، عبر اللوائح المستقلة وخلق روحية جديدة. المهم الاستمرارية وتحديد الأطر".
مما لا شك ان المشكلة لم تعد تفصيلية بل باتت كيانية تطاول قلب الوطن. وحين اطلق الوزير السابق شربل نحاس "مواطنون ومواطنات في دولة"، وحدد سلسلة اهداف محددة، تعززت قبيل الانتخابات البلدية، كان يدرك جيدا في قرارة نفسه ان تصويب الهدف يساهم في تحديد البوصلة وبالتالي يساعد في رفع اسهم نجاحه. وهو يدرك ان المشكلة باتت في المواطنية، وتتظهر بوجوه متعددة. تارة في النفايات، وطورا في قوانين الانتخاب، ودائما في الاهدار والفساد والصفقات.