الأحد 8 أيار 2022 11:21 ص

"أبو نبيل" رباح عميد العائلة وحطين .. مسيرةُ عطاءٍ بقِيَمٍ فلسطينية


* جنوبيات

برحيل العم الحاج محمد علي رباح "أبو نبيل"، عميد آل رباح وبلدة حطين عن عمر ناهز (95 عاماً)، نفتقدُ قيمةً إنسانية وتربوية ووطنية جُبِلَتْ بخيرات فلسطين.
بين الميلاد في حطين في العام 1927، والوفاة في المنامة في 30 نيسان/إبريل 2022، إثر صيام وقيام شهر رمضان المُبارك، وما بينهما من إقامة ولجوء مُؤقت في مُخيّم عين الحلوة في لبنان، محطات مُتعدّدة في مسيرة حياة الحاج "أبو نبيل"، كانت مُفعمةً بالعطاء والمآثر، كرّس فيها المبادىء التي تربّى عليها، والخبرة التي اكتسبها من تجارُب الحياة، فتحوّلت إلى قيمٍ غرسها في الأجيال، مُربياً وكشّافاً وأباً ومُوجِّهاً، وفي مجالات مُتعدّدة مرّت في شريط حياته.
كُنتُ أسمعُ عن العم "أبو نبيل" من والدي سليم زعيتر، فهو صديقه في التدريس وتأسيس "الحركة الكشفية الفلسطينية" في لبنان، بعد نكبة فلسطين، وأنّ الشاب المُفعم بالحيوية والنشاط والمُتفوّق بالعلم، قصد البحرين لنقل تجربته بالتربية والتعليم إلى أبنائها.
مرّت السنوات وازداد الشغف بالتعرُّف على العم "أبو نبيل"، وتشاءُ الظروف أنْ ألتقي به لدى مُشاركتي في الوفد، الذي رافق رئيس دولة فلسطين محمود عباس إلى مملكة البحرين، بدعوةٍ من الملك حمد بن عيسى آل خليفة، خلال الفترة بين 3-5 تشرين الثاني/نوفمبر 2010.
ضمن المواعيد، كان لقاءٌ بين الرئيس "أبو مازن" وملك البحرين، حيث كان يتم تقديم أعضاء الوفد المُرافق للرئيس إلى عاهل البحرين، وكان بينهم "أبو نبيل"، فكان المشهد مُختلفاً، لأنّه قبل التعريف به، إذ بالملك حمد يخرج عن "البروتوكول"، ويغمُر "أبو نبيل"، مُخاطباً إيّاه أمام الجميع "أُستاذي...".
حدّثني العم "أبو نبيل" لاحقاً عن ذلك، بالقول: "لقد كان الملك حمد بن عيسى آل خليفة طالباً في "مدرسة المنامة الثانوية للبنين"، بين العامين الدراسيين 1962-1964، وكُنتُ قد عُيّنتُ مُشرفاً إدارياً لمبنى الثانوية الأولى وقائداً لفرقتها الكشفية لمُدّة 11 عاماً".
ذلك المشهد أثبتَ مدى المكانة التي رسّخها "أبو نبيل" على مدى عقودٍ عدّة في مسيرة العطاء، التي بَقِيَ فيها مُستمرّاً مع تقدُّمه بالسن، فكان ذلك يزيده عطاءً وخبرةٍ وتميّْزاً في دوره بنهضة مملكة البحرين، والتعاطُف مع عدالة قضيّته والتعريف بها.
مسيرةٌ حافلة بالعطاء، من أُسرةٍ تربَّت على المبادئ الوطنية والقومية والعروبية والإسلامية، والتمسُّك بالعادات والتقاليد والقيم الأخلاقية، والتواضُع، وحُب الآخرين، وتقديم كُل عونٍ ومُساعدة وكرم الوفادة والشهامة والنجدة.
عطاءٌ لا محدود في التربية والتعليم والعمل بأُبوّةٍ وأُخوّةٍ.
لقد حقّق "أبو نبيل" أمنيته بزيارة مسقط رأسه، بلدة حطين في فلسطين المُحتلة، خلال العام 2011، ضمن وفد رياضي من مملكة البحرين، حيث كان يشدّه الحنين إلى مكان الولادة، ومرتع الصبا والشباب، وعن تلك اللحظة يقول: "لقد أُصبتُ بصدمةٍ حين وجدتُ أنّ المُحتل الإسرائيلي مسح البلدة عن وجه الأرض، ولم يبقَ إلا المسجد الذي تعرّض إلى أذيّة المُحتلين برمي القاذُرات، لكن أحد أبناء حطين - الذين بقوا - رفع دعوى، وتمكّن من وضع باب للمسجد لحمايته. وقد بنى الاحتلال على أرض البلدة مُستوطنة "أرئيل" في العام 1949، و"كفار زيتيم" في العام 1950".
من مسيرة العم "أبو نبيل"، التي وثّقتُها خلال جلسات عدّة، يُمكن إيجاز أبرز المحطات، في ما يلي:
أبصر محمد رباح النور في العام 1927، في منزل علي صالح رباح، في بلدة حطين - قضاء طبريا، الشاهدة على انتصار السلطان صلاح الدين الأيوبي على الحملات الصليبية في تموز/يوليو 1187.
وهو في سن التاسعة من عمره، اندلعت ثورة العام 1936 ضد الإنكليز والصهاينة، فشهد كيف كان والده، الذي يتولّى مهام ضابط الارتباط بين القيادة الميدانية في منطقة "لواء الجليل" وقيادة "الثورة العُليا" في دمشق، يساعد الثوّار، ويؤمّن لهم المبيت في داره، قبل أنْ يُغادروا قبيل الفجر للقيام بالواجب الجهادي.
تخرّج من الثانوية العامة، وعمل مُدرّساً في حطين، حيث كان يتقاضى 7 جُنيهات فلسطينية، قبل تركه العمل في التجارة، وقيادة سيارة "لوري"، اشتراها له والده لنقل البضائع والفلاحين والأفراد من حطين إلى أسواق طبريا صباحاً، وانتظارهم للعودة قبل المغيب.
مع حملات العصابات الصهيونية، حمل محمد رباح السلاح، وقاتل جنباً إلى جنب مع والده وأبناء بلدة حطين، ضمن "لواء قوّات الجهاد المُقدّس"، التي شكّلها المُفتي الحاج محمد أمين الحسيني بقيادة عبد القادر الحسيني.
بعد إعلان قيام الكيان الإسرائيلي في 14 أيار/مايو 1948، بقيت حطين وعدد من البلدات المُجاورة، تقاتل العصابات الصهيونية، قبل الاضطرار إلى المُغادرة بناءً على طلب "جيش الإنقاذ" بالخروج لأيامٍ على وعد بالعودة، فكان الخروج في تموز/يوليو 1948، حيث قاد محمد سيارة العمل "لوري"، وهذه المرّة مُحمّلة بأفراد عائلته، مُجتازاً الحدود الفلسطينية - اللبنانية، ليحط بهم الرحال في بلدة بنت جبيل، قبل أنْ يلحق بهم الوالد.
من هناك، كانت المحطة إلى مُخيّم الطوارئ بالقُرب من مدينة صيدا، الذي أنشأه "الصليب الأحمر الدولي" قبل إنشاء مُخيّم عين الحلوة، ومن ثم نقل ملف اللاجئين إلى وكالة "الأونروا".
كان محمد في طليعة المُدرّسين في المدرسة التي أنشأها "الصليب الأحمر الدولي"، قبل أنْ تستلم الأُمم المُتّحدة الإشراف الكامل على ملف اللاجئين و"اليونيسكو" على المدارس.
عمل الأساتذة على تعليم الطلاب، لأنّ العلم السلاح الأساسي الذي يُمكّنهم من العمل وتأمين لقمة العيش ومُواجهة مصاعب الحياة، وأيضاً التوعية على عدالة قضيّتهم وحقّهم بفلسطين.
ساهم في تأسيس "الحركة الكشفية الفلسطينية" في لبنان، بالتنسيق مع ذياب الفاهوم، أحمد اليماني "أبو ماهر"، سليم زعيتر، عبد المجيد كريم، سعيد قاسم ويحيى عطايا.
أقامت "اليونيسكو" دورتين تربويّتين للأساتذة الفلسطينيين في مصيف بحمدون في جبل لبنان بين العامين 1951-1952، بحضور الأستاذ أحمد العمران من البحرين، الذي عرض على الأساتذة الفلسطينيين العمل في المنامة مُقابل 150 روبية أساسي + 50 روبية علاوة، وكانت الروبية تُساوي 60 قرشاً لبنانياً - أي ما مجموعه 120 ليرة، بينما كان يتقاضى الأستاذ من "اليونيسكو" 160 ليرة لبنانية ويُقيم مع عائلته، وتكرّر العرض في العام التالي، لكن قوبل مُجدّداً بالرفض.
في حزيران/يونيو 1953، نشرت جريدة "الحياة" اللبنانية إعلاناً عن حاجة البحرين إلى مُدرّسين، وحُدِّد "المجلس الثقافي البريطاني" في بيروت مكاناً لإجراء المُقابلة، فتقدّم محمد رباح مع عدد من الأساتذة إلى المُقابلة، وبعد أسبوع وصلته رسالة من أحمد العمران، الذي كان وزيراً للتربية والتعليم في البحرين بالمُوافقة على التعاقُد مُقابل 350 روبية - أي ما يُساوي 210 ليرات لبنانية، وهو ما يزيد عن الراتب الذي كان يتقاضاه من "اليونيسكو"، وقد نصحه مُدرّس لبناني بالقبول، قائلاً: "الحياة في البحرين رخيصة، وأهلها في غاية الطيبة".
كان على عاتق الأستاذ محمد عبء المُساهمة بإعالة عائلته المُكوّنة من 24 فرداً بين إخوة وأبناء، عندها وقّع عقداً مع 6 مُعلّمين من مُخيّم عين الحلوة بالمُوافقة على ذلك.
تمّت مُغادرة لبنان برّاً عبر سيارة تكسي إلى العاصمة السورية، دمشق، ومنها بسيارة مُكيّفة، إلى العاصمة العراقية، بغداد، وبعدها بواسطة القطار إلى البصرة، حيث صعدوا إلى باخرة رست في مرفأ المحرّق في البحرين، وكان ذلك بتاريخ 27 أيلول/سبتمبر 1953، حيث كانت بانتظارهم سيارات وزارة التربية.
عُيّن في "مدرسة الهداية الخليفية"، وهي أوّل مدرسة تمَّ تأسيسها في الخليج العربي، حيث جرت استضافتهم في مضافة كانت مُخصّصة لاستضافة أبناء الخليج العربي، الذين كانوا يتعلّمون في المدرسة، وتتكفّل البحرين بتأمين احتياجاتهم، وكان ذلك لمُدّة عام، لأنّ العقد نصَّ على أنْ يكون العام الأوّل كتجربة، ومن دون العائلة لتقدير إمكانية التأقلم.
نُقِلَ بعدها إلى "مدرسة الهداية الخليفية" لمُدّة عام واحد 1953-1954، قبل الانتقال إلى "المدرسة الشرقية" في رأس الرمان لمُدة عام واحد 1954-1955، وبعدها الانتقال إلى "المدرسة الغربية" ("مدرسة أبو بكر الصديق" حالياً) لمُدّة 4 سنوات.
ومن ثم إلى "مدرسة المنامة الثانوية للبنين" لمُدّة 11 عاماً، حيث أُوكلت إليه مُهمة الإشراف الإداري على مبنى السنة الثانوية الأولى وقيادة الفرقة الكشفية، وأثناء ذلك كان الملك حمد بن عيسى آل خليفة طالباً بين العامين 1962-1964، ثم الانتقال إلى "مدرسة جدحفص الثانوية الصناعية"، حيث عُيّن سكرتيراً للمدرسة لمُدّة 9 سنوات.
بعدها إلى "مدرسة مدينة عيسى الثانوية للبنين" لمُدّة 9 سنوات أيضاً.
قبل الإحالة إلى التقاعُد في نهاية العام الدراسي 1987-1988، حيث كرّمته إدارة المدرسة.
حول تجرِبته في البحرين، يتحدّث "أبو نبيل" عن طيبة أهلها وكرمهم، فيقول: "لدى وصولنا إلى البحرين وتردّدنا على أسواق اللحوم والسمك والخضراوات والفواكه، كان الباعة يقولون لنا: "أستاذ إذا ما عندك بيزات (مال) يمكن أنْ تدفع تالي (لاحقاً)، وإذا كنت تحتاج إلى بيزات فنحن بالشوفة"، فكان لهذه الكلمات أثر كبير في نفوسنا، ما أثلج صدورنا وأدخل السرور إلى قلوبنا. وقد حصلتُ على الجنسية البحرينية في العام 1996، وفق قوانين البحرين التي تُتيح للمُواطن العربي الحصول على جنسيتها بعد مرور 10 سنوات على الإقامة فيها".
لدى بلوغ "أبو نبيل" العمر 61 عاماً، والتقاعُد من التدريس، لم يتقاعد من استمرار نشاطه، فعمل في مكتب مُمثّلية "مُنظّمة التحرير الفلسطينية" في العام 1988، قبل تحوّله إلى سفارة دولة فلسطين في كانون الثاني/يناير 1989، مسؤولاً للشؤون الإدارية والمالية، فكان مثال المُوظّف الأب والأخ للجميع، وهذه السمة انسحبت على الجالية الفلسطينية في البحرين وعلاقاته مع أبناء المملكة والجاليات الأخرى.
توفي العم "أبو نبيل" في المنامة، وكانت أُمنيته أنْ يعود إلى مسقط رأسه حطين، ويُوارى جمانه في ثراها، على أمل نقل رُفاته إليها بعد التحرير.
يرحل العم "أبو نبيل" رباح، بعد مسيرةٍ حافلة بالعطاء، حيث يشهدُ الجميع له بإيمانه وتقواه، وشهامته وسعة علمه وأثره الطيّب، وتاركاً ذُريّةً صالحة وعلماً ينتفعَ به الآلاف، الذين أصبحوا في مراكز مرموقة، ليكون ذلك صدقةً جارية في صالح أعماله.
رحم الله العم الحاج محمد علي رباح، وأسكنه فسيح جنّاته، وألهم أهله وذويه ومُحبيه الصبر والسلوان.

 

المصدر :جنوبيات