تحل الذكرى الـ49 لعملية المناضلة اللواء فاطمة البرناوي (77 عاماً) بهدوء، هي التي لم تعتد الهدوء إلا في تحمّلها للألم، وفي كتمها للأسرار العسكرية، فتحدّت السجّان الصهيوني، وأسّست لجيل جديد من العمل الجهادي النسوي الفلسطيني والعربي.
وهذا هو حال فاطمة البرناوي في التاريخ ذاته الذي يعود إلى (8 تشرين الأوّل 1967)، حين كان من المحتمل أنْ تستشهد فيه، لدى تنفيذها أوّل عملية فدائية لها في القدس، التي شاركتها فيها شقيقتها إحسان، والتي للتقدير الإلهي أنّها رحلت قبل عام وبالتاريخ ذاته (8 تشرين الأوّل 2015)، وفي العاصمة الأردنية، عمّان، حيث ووريت الثرى.
في العملية الأولى في القدس كُتِبَتْ للشقيقتين الحياة من جديد، لأنّ الرسالة التي امتشقتا السلاح من أجلها، كانت بحاجة إلى أنْ تصل وتُعمّم، عبر سنوات من النضال، حقّقتا خلالها الكثير.
فاطمة البرناوي، الحاجة، اللواء، المناضلة، الأسيرة، المحرَّرة، قائدة الشرطة، "أم الثوّار" "والعمّة"، هي أسماء عديدة التصقت بها، وحقّقت الكثير من الإنجازات، التي حُفِرَتْ في صخر النضال، ليس الفلسطيني فحسب، بل والعربي والأممي، فهي:
- أوّل أسيرة تُسجّل في سجلات "الحركة النسوية الأسيرة"، في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة.
- أوّل أسيرة لحركة "فتح" والثالثة في الثورة الفلسطينية.
- مؤسِّسة "الشرطة النسائية الفلسطينية" في قطاع غزّة، بعد عودتها إلى أرض الوطن، وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994.
تجربة المناضلة فاطمة البرناوي، مليئة بالعبر والحكم، التي تثبت دورها النضالي في إطلاق العمل النسوي الفدائي، والذي واصلته خلف قضبان السجن في مواجهة السجّان الصهيوني، ورفض الانصياع لضغوطه وتهويله، وفي الإفراج عنها ومواصلة عملها النضالي، وزواجها من الأسير المحرَّر فوزي النمر، وهو ما وافقت الحاجة فاطمة البرناوي أنْ أوثّقه في كتابي "الأوائل على درب فلسطين"، وكان من الُلبنات الأولى لهذا الكتاب، ثم مع شريك عمرها فوزي في كتاب "فلسطين دولة".
وكم كانت السعادة بادية على وجه اللواء فاطمة، عندما وصلت إلى بيروت للمشاركة في حفل توقيع كتابي "الأوائل على درب فلسطين"، الذي أُقيم في قصر الأونيسكو (27 حزيران 2012)، حيث التقت بالكثير من المناضلين، الذين كانت قد خدمت معهم في صفوف الثورة الفلسطينية أو عرفتهم في مراحل متعدّدة من نضالها، فذرفت دموع فرح اللقاء.
الرحلة كانت طويلة من قطاع غزّة عبر معبر رفح، وصولاً إلى مطار القاهرة الدولي، ومنه إلى "مطار الملكة علياء في الأردن"، بمساعدة مدير "الصندوق القومي الفلسطيني" الدكتور رمزي خوري ومدير مكتبه الحاج طه نوفل، إلى "مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري الدولي" في بيروت بمساعدة السفير الفلسطيني في لبنان أشرف دبور.
هو المشهد نفسه تكرّر عندما كنتُ أوقّع كُتُبي في العاصمة الأردنية، حين حضرت إحسان وابنتها عبير للمشاركة في الاحتفالات.
العملية الأولى
فاطمة تجسّد أكثر من رسالة، نستعرض منها البعض:
- والدها محمّد علي، نيجيري، نزل القدس بعد أدائه فريضة الحج، وقاتل إلى جانب الحاج أمين الحسيني، ورُزِقَ بخمسة أفراد، بينهم فاطمة وإحسان، اللتان نمتا في الحرم القدسي الشريف.
وبعد نكبة العام 1948، هُجّرت العائلة إلى الأردن، لكن بقي الوالد في القدس، عندها قرّرت فاطمة، إبنة السنوات التسع (مواليد القدس في العام 1939) العودة إلى القدس، فهربت من والدتها، متّجهة إلى الباص الذي يقُل الركاب إلى فلسطين، مختبئة بين مقاعده كي لا تراها والدتها، ولما شاهدها المسؤول عن الباص سألها عمّا تفعله بين المقاعد؟ فأجابته: "أضعتُ قرشين"، علماً بأنّها لم تكن تملك ولا قرشاً واحداً، ثم تبعتها لاحقاً والدتها وأخوتها الأربعة، وتعلّمت مهنة التمريض.
- العام 1967 كان نقطة التحوّل لدى فاطمة، التي تعرّفت إلى جرحى فلسطينيين كانوا من "صاعقة 23"، وكذلك إلى "شباب الثأر"، تمَّ نقلهم إلى مستشفى في نابلس، وأخذت تساعدهم وقرّرت تهريبهم، وتمكّنت هي أيضاً من الهرب من جنود الاحتلال.
بعد حرب حزيران 1967، تعرّفت إلى الشاب شوقي شحرور، الذي أبلغها بعد سؤالها عن الجهة التي ينتمي إليها بأنّه من حركة "فتح"، عارضاً عليها الانضمام إلى الحركة، فكان جوابها سريعاً: "آه من هلق"، وأقسمت اليمين.
بعد ذلك كلّف "الدكتور محمد" فاطمة بتنفيذ عملية عسكرية، تقضي بتفجير "سينما صهيون" في القدس، لكن المفاجأة التي نزلت كالصاعقة عليها، أنّ "الدكتور محمد"، هو الرئيس ياسر عرفات، وقد دخل الأراضي الفلسطينية إلى الضفة الغربية، خفيةً عبر نهر الأردن، لأنّه كان مطارداً من قِبل الاحتلال الإسرائيلي.
كانت العملية التي أوكلت إلى فاطمة، واحدة من بين 7 عمليات خطّط "الدكتور محمد" لتنفيذها، وهو حُلم كانت تنشده دوماً للرد على الاحتلال الغاصب، وكانت المفاجأة الأخرى أنّ شريكتها في العملية، أختها إحسان، التي كانت تصغرها بخمس سنوات، وسبقتها بالدخول إلى حركة "فتح".
بتاريخ 8 تشرين الأول 1967، انطلقت فاطمة وأختها إحسان لتنفيذ العملية، حيث وضعتا حقيبة مليئة بالمتفجّرات داخل "سينما صهيون"، التي كانت تعرض فيلماً عن الحرب، ثم ادّعت فاطمة بأنّ بطنها يؤلمها، فسألت أحدهم عن صيدلية تكون قريبة من السينما، وبذلك تمكّنتا من الخروج دون أنْ يشعر بهما أحدٌ، لكن صحافياً أميركياً انتبه للحقيبة، فظنَّ أنَّ الفتاتين السمراوتين قد نسيتاها، فخرج خلفهما مسرعاً، فما كان من جنود الاحتلال إلا أنْ نقلوا الحقيبة إلى خارج السينما، وقاموا بتفجيرها، وعندما سمعت الفتاتان دوي الانفجار، أخذتا تنشدان أغنية لأم كلثوم "راجعين بقوة السلاح.."، وبدأ جنود الاحتلال عملية البحث عن الفتاتين السمراوين، اللتين توغّلتا في حي باب المغاربة في القدس، الذي تقطنه الجالية الافريقية، حيث ظن الجميع بأنّهما من الأفارقة، الذين يسكنون باب المغاربة في القدس، وبالتالي لم يكن البحث عنهما سهلاً، وهو ما ساعدهما على الإفلات من جنود الاحتلال.
وكان "أبو عمار" قد أرسل رسالةً إلى عائلة فاطمة من خلال شاب، وصل إلى البلدة وسأل المختار عن العنوان، فأرشده إليه، وكانت الرسالة تطلب منهم "مغادرة المنزل قبل أنْ يصل الإسرائيليون إليهم".. لكن المختار كان عميلاً للاحتلال، فوشى إليهم بأنّ شاباً غريباً عن المنطقة موجود في البلدة، وفي منزل محمد علي البرناوي، وحين وصل جنود الاحتلال إلى منزل عائلة فاطمة، كان الشاب لا يزال يشرب القهوة عندهم، فاعتقلته دورية الاحتلال، كما اعتقلت والديها، وأختها التي ادّعت بأنّها فاطمة، لتتيح لأختها المجال بالهرب، لكنّ الجنود ما لبثوا أنْ اكتشفوا الأمر، لكنّ إحسان، تمكّنت من الفرار إلى الأردن مع مجموعة علي طه، وهناك تزوّجت واستقرّت.
في اليوم التالي، بتاريخ 10 تشرين الأول 1967، دهمت قوّة للاحتلال مكان عمل فاطمة، وأوّل ما وقع نظرهم على فاطمة، صرخوا هذه هي.. فصرخت الفتيات: "إلى أين تأخذونها؟، أجابها أحد أفراد القوة الإسرائيلية: "فقط سنأخذها 10 دقائق"، هنا تذكر فاطمة ذلك بالقول: "انزعجت، وقلت لهم مش 10 دقايق، قولوا 10 سنين.. كرمال ما قول اعترفوا عليّ، أو ما اعترفوا؟.. أنا اعترفت على نفسي".
قُدّمت فاطمة إلى المحاكمة، وكذلك الشبان السبعة الذين نفّذوا سلسلة العمليات التي خطّط لها "أبو عمار"، وكان قد أوكل لها والدها محامياً فلسطينياً، بعدما كانت رفضت التعامل مع المحامي الإسرائيلي، واعترفت بتنفيذها العملية، قائلةً: "إنّها عملية شرعية، دفاعاً عن وطني، لماذا أتنكّر لها؟!"، وحكم عليها بالسجن مؤبدان و10 سنوات، بتهم حيازة أسلحة، والشروع في تنفيذ عملية تفجيرية، والانتماء لتنظيم غير شرعي.
علقت فاطمة على الأحكام الصادرة بحقها، بالقول: "كان الهدف من هذه الأحكام، أنْ تخاف باقي البنات، ويُحْجِمْنَ عن المشاركة في الأعمال النضالية، لكن حدث العكس، إذ تحرّرت المرأة الفلسطينية من قيود المجتمع، وانطلقت باتجاه الثورة، فقد قامت بعدي المناضلة عايدة سعد بتفجير دبابة إسرائيلية في قطاع غزّة، على الرغم من أنّها كانت في السابعة عشرة من عمرها"، ويومها تصدّرت صورتها غلاف مجلة "اللواء".
- أثناء وجود فاطمة في سجن "نيفي ترتسيا" كانت الأسيرة المناضلة زكية شموط "أم مسعود"، في السجن، وعندما أتاها مخاض الولادة، وضعتها سجّانات الاحتلال في زنزانة انفرادية قبل أنْ يُغمى عليها بعد صراخها ، فعلا صراخ الأسيرات فاطمة، ومعها تريز هلسا، حنان مسيح، وناديا بردلي وغيرهن، مطالبات بمعرفة ماذا جرى لزكية، التي تبيّن أنّها مطروحة أرضاً، وطفلتها ما زالت متعلّقة بها، والدم يغمر المكان، فقامت (الممرّضة) فاطمة بقص الحبل السري، وكانت ولادة ناديا شموط، التي زوّجها أبو جهاد الوزير، قبل استشهاده بأيام قليلة في نيسان 1988 من المناضل خالد أبو إصبع، أحد الناجين من "عملية الشهيدة دلال المغربي".
عدم إنكار دور أي مناضل
- فاطمة الصادقة، والمتواضعة، حرصت على عدم إنكار دور أي مناضل، فأوضحت أنّها لم تكن الأسيرة الأولى في الثورة الفلسطينية، بل سبقتها مناضلتان، هما إخلاص علي، أسيرة بتهمة تعليم أطفال فلسطين في الداخل الأناشيد الثورية, ونايفة عاقلة, التي كانت ناشطة مع "جماعة الأرض", بعدما كانت قد أُسِرَتْ في العام 1956، بتهمة تهريب معلومات عن الجيش الإسرائيلي إلى الجيش السوري.
- بتاريخٍ 15 أيار 1974، أقدم 3 فدائيين من "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" على احتجاز 230 طالباً في "مدرسة الشبيبة العسكرية الإسرائيلية"، التي تقع داخل أحد مباني الاستخبارات الإسرائيلية، في منطقة "معلوت" - شمال الجليل، وطالبوا بمبادلتهم بأسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، وأحضر موشي ديان الأسيرة فاطمة من سجنها، وقالت فاطمة: "كنت معصوبة العينين في تلك اللحظات، ولما وصلت إلى المكان، كان هناك شخص آخر يقف بالقرب منّي، تبادلنا كلاماً مشفراً، فعلمت من خلاله بأنّ هذا الشخص الذي يقف إلى جانبي هو أسير مثلي، ولاحقاً اكتشفت أنّه عضو اللجنة المركزية لـ"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" عمر القاسم"، ثم طلب منهما ديان، التوجّه بالكلام إلى الفدائيين من أجل إطلاق سراح الرهائن، فتقول فاطمة: "رفضنا ذلك، لأنّها كانت خدعة من جيش الاحتلال"، لكن عمر طلب منهم إعطاءه مكبر صوت ليتوجّه بالكلام إلى الفدائيين، حيث قال: "أيها الرفاق: نفّذوا ما جئتم إليه.. نفّذوا أوامر قيادتكم بحذافيرها".
في تلك اللحظة انقض عليه جنود الاحتلال، وأوسعوه ضرباً، وأعادوه وفاطمة كل إلى زنزانته، واستمروا بتعذيب عمر، الذي استشهد داخل السجن بتاريخ 4 حزيران 1989، وأُطلِقَ عليه لقب "مانديلا فلسطين".
ولما حاول ديان السيطرة على المبنى واعتقال الفدائيين وتحرير الرهائن، قام الفدائيون بتفجير المدرسة، ما أدّى إلى استشهادهم، وقتل 73 رهينة، وهؤلاء كانوا طلاباً في مدرسة حربية، وليس كما صوّرهم الإعلام الصهيوني بأنّهم طلاب مدنيون، وعلى أثر ذلك قدّمت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير استقالتها، بسبب عدم دخول الحكومة بمفاوضات، وحمّلت لجنة التحقيق الإسرائيلية "لجنة جوزيف" التي كان يترأسها قاضٍ يدعى جوزيف، ديان مسؤولية ما حدث.
- أُطلِق سراح الأسيرة فاطمة بتاريخ 11 تشرين الثاني 1977، قبل زيارة الرئيس المصري محمد أنور السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، ثم لاحقاً توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" مع الكيان الإسرائيلي، والتي نصّت على إطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين، وإبعادهم إلى خارج الوطن، فكان من بينهم فاطمة، وهكذا أُطلق سراحها، لكنها أُبعدت إلى الأردن، ثم وصلت إلى لبنان، حيث التحقت في صفوف الثورة الفلسطينية، ولكن في المجال الاجتماعي وليس العسكري .
- فى إحدى المرّات التقت الأسيرة المحرّرة فاطمة، بفدائية تُدعى دلال المغربي، وتتذكّر ما جرى معها بالقول: "حين نزلتُ بيروت، جاءت دلال لتتعرف عليّ، وكانت صغيرة في السن، قالت لي: "سأذهب إلى المكان الذي أتيت منه".. لم أتوقّع حينها أنّها فدائية، إلى أنْ سمعت نبأ استشهادها، فعرفت بأنّها الفتاة التي جاءت لتتعرّف عليّ، فكانت مفاجأة كبيرة جداً".
- تزوّجت فاطمة من المناضل فوزي النمر، الذي أُطلِقَ سراحه أيضاً في صفقة التبادل التي كانت جزءاً منها، وكان من "مجموعة 800-877" (هي أوّل مجموعة فدائية في أراضي 1948، نفّذت عمليات ضد مصفاة النفط وأهداف إسرائيلية في قلب تل أبيب، رداً على المجزرة التي ارتكبتها القوات الجوية الإسرائيلية بقصف "مدرسة بحر البقر المشتركة" في قرية بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية في مصر، وأدّت إلى استشهاد 30 طفلاً وإصابة 50 آخرين، بتاريخ 8 نيسان 1970)، فأقبل فوزي وقبلها في جبينها، ثم وقع النصيب.
- بعد عودة الكثير من المناضلين الفلسطينيين إلى أرض الوطن في العام 1994، ومن بينهم فاطمة، طلب منها الرئيس "أبو عمار" منها تأسيس "جهاز الشرطة النسائية" الفلسطينية، ونجحت في ذلك رغم كل الظروف الصعبة، ومنها العادات والتقاليد، قبل دخول الطمأنينة والسكينة لقلوب الأهالي لتواجد المناضلة فاطمة على رأس المهمة.
فاطمة البرناوي، النموذج الرائد من المناضلين.