* د. حسين عبيد
في زحمة التطورات، وحيث تتسارع الأحداث، وتلقي بظلالها الثقيلة على ساحة المشهد، حيث السعي لتسويغ فكرة أو مشروع ما أو للدّفاع عنه، ولا يتحقق هذا الأمر دون اعتماد خطاب ما، ليعبر فيه عن نوازعه ومواقفه.
وفي ضوئه تتحدد المنطلقات التي يمكن للمخاطب التعامل معها، وعليه متى وكيف؟ هل هو خطاب صادق أم خطاب ملون، أم خطاب مزيف؟ باعتبار أنّ كل واحد من الأنواع يعكس حقيقة مُطلقه، ويكشف عن بواطن أموره، وهنا نجد أنّ ثمّة خطابًا في ساحاتنا تفوّق على ما عداه من خطابات - عنيت به – هو ذاك الخطاب الذي يبث سموم الحقد والكراهيّة تجاه خصومه أو ممّن يعتبرهم أعداءه، وفي الوقت ذاته يحاول تنزيه نفسه وجماعته من كل دنس، وهو ما شهدته ساحتنا اللبنانيّة، لا سيما في موسم الانتخابات، وفيها ضجت الألسن بكل أنواع الخطابات، ومعها تمّ تجاوز كل المحظورات، والانتقال حتى من خطاب الكراهيّة إلى خطاب التجني المُلوث بالمكر والعدائيّة، بعيدًا كل البعد عن الانتقاد البنّاء القائم على تصويب الأفكار والسلوكات.
وبعد هذه الإطلالة الموجزة يمكن أن نتلمس محاذير ذاك الخطاب النرجسي الأحقودي، ما يمكن أن نطلق عليه، كما أسماه البعض بـ"خطاب الكراهيّة"، وهو تعبير عن حال الكراهيّة، المرتكزة على التميز السلبي تجاه الأشخاص، ممن يختلفون عن المخاطب بالهويّة أو الانتماء، أو المنطقة، أو الدين، أو الطائفة، أو المذهب، وحتى الحزب، أو الجماعة ... ويعتبر هذا الخطاب بأشكاله المختلفة، حالة تعبيريّة عن الانفصام في الشخصية التي تتأرجح بين كامن حاقد، وظاهر يدّعي التحضر والتنور والمدنية.
وتكمن الخطورة في اعتماد هذا الخطاب، في أنه ينطلق من رواسب حقد دفين، تجاه من يخالفه الرأي أو المعتقد، وأخطر ما فيه أنه يمس الكينونة المعنوية والشخصيّة في آن، كما تنضح أراجيزه بذهنيات الاستئصال، مستخدمًا طرائق وأساليب ملتوية، ممزوجة بالتلون والتزييف، بالشّتم تارة والافتراء أخرى، والتشويه ثالثة، وتقديمه بصورة نمطية تطال الكرامة، ما يلحق بالمُخاطب أذىً نفسيًّا، ينكمش في داخل ذاته إلى أجل، فإمّا أن ينفجر غضبًا أو ينطوي على ذاته، أو يجعله يلتف حول عصبيته وغرائزيته، هذه الغرائزية المتمادية، بما أنها متأصلة، لن يسلم منها حتى الشخص منه، وستطال رفاقه في الحزب أو التيار أو الجماعة أو الرفاق... وهو ما سنراه ينضح من جلد هؤلاء قولًا وفعلًا، سلوكًا وممارسة...
ولئن كان العمل لانتاج خطاب الكراهيّة، وبطريقة ممنهجة ومدروسة، فإنّه لم تُعدم وسيلة، إلّا واستعملت، ضد الخصوم، تارة بالتلميح، وأخرى بالتصريح، تارة بالتعليق، وأخرى بالاستعلاء والعَنصَرة، أو من خلال التشكيك بتاريخه، بقيمه ومعتقداته، وكل ما يمت لكيانه بصلة، وهكذا دواليك... وقد تصل الدعوات إلى القتل أو التشريد أو التهجير. وهنا نقع في المحظور، وفيه قتل المستقبل للأجيال اللاحقة التي تتربى على الحقد والضغينة، فهل يعقل مطلقو هذا الخطاب، ومنتجيه، إلى أيّ مدى يسهم خطابهم هذا، في تدمير الذات لمطلقيه قبل تدمير ذوات غيرهم، مع ما يحمل من حال القلق للشخصيّة التي تحمل هذا الخطاب؟ وهل هذا الخطاب هو خطاب ظرفي كشمّاعة عارضة، أو طارئة؟ أم أنّه خطاب متأصل في نفوس مطلقيه؟
وعليه يمكن القول إنّ كان ظرفيًّا أو عارضًا، فهو تعبير عن خيالات واهمة ليس إلّا، وهنا نتوجه إلى فساد الوسيلة المستخدمة وقذارتها في النيل من الخصوم لتحقيق أهداف محددة، وذلك بحسب الإيحاء والتصريحات، إن لم نقل إنّها مشبوهة، فهي على الأقل مغرضة، وفي كلا الحالين لمواطن حرّ شريف يسعى إلى تحقيق أهدافه بشرف، لا يجوز له أن يستخدم أساليب ملتوية لتحقيق مشاريعه أيًّا كانت وكيفما كانت... ومن بعدها ننطلق لنقول إن كان هذا الخطاب متأصل في نفوس مطلقيه، فهنا الطامة الكبرى، وذلك بما يحمل من عدائية وعنصريّة تجاه الآخر، وهو بالتالي، يعبّر عن عدم إمكانية التعايش، ولو بالحد الأدنى، مع هذه الحالة الحاقدة، وإن تلونت بكل أنواع الديمقراطيّة وغمست نفسها بماء الذهب، فإنّها تبقى في جوهريتها حاقدة ... وخطرها ليس ذاتيًّا فحسب، وإنّما هو خطر على وجود الجماعات كما الكيان، وبعبارة أخرى أقل ما يقال فيه إنّه فكر متطرف واستئصالي.
في ضوء ما تقدم، يمكن القول، إنّ خطاب الكراهيّة، هو خطاب متأصل لدى بعض التيارات والأحزاب والقوى، تنفث سمومها وأحقادها، وعليه ترتكز في نيل مشروعيتها العنصرية، ومن موقع الإسفاف المقنع تحت مدّعى الزيف العنصري، بعناوين، السيادة والاستقلال، بشعارات تحرير لبنان ممّن لا يشبههم، بشيء. لبنان المسلوب، لبنان المحتل، كل ذلك تحت مدّعاة حقوق الإنسان وحريّة التعبير، واستعادة الكرامة.
وللعلم مهما حاول سياسيو المصلحة الحدّ من تداعياتها، يبقى الشك سيد الموقف، الدّملُ لن يفيد، وما يحدثه هذا الخطاب سيؤدي إلى تآكل اللحمة، وتمزيق النسيج النفسي، كما النسيج الاجتماعي، وتوسيع الهوّة، الذي لن يُنتج، في المقابل، إلّا انشدادًا وشدّ عصب للفريق المستهدف بوجوده وهويته ومصيره.
ولتلافي الأخطار المحدقة بذواتنا الذاتية والشخصية والمعنوية والاجتماعية، والسياديّة، وضنًّا ببنيه، من تقلب الأحوال والأزمنة، ولبناء وطن، يتغنى بمفردات العيش المشترك، والغنى والتعدد والتنوع، أن نعتمد خطاب التلاقي، لاجتثاث كلّ بذور الحقد والكراهية، وذلك بالتحاور، فلا تُنصب متاريس الحقد، المدعومة خارجيًّا للنيل من أبناء البلد الواحد.
وبعدُ يقال، هل تُبنى الأوطان على عرش الحقد، وتوليد خطاب الكراهيّة؟ أم علينا إنتاج خطاب التلاقي والحوار، لصياغة هويّة لائقة، تنعكس مواطنيّة صادقة؟