الأربعاء 15 حزيران 2022 09:26 ص

د. غسّان حمود.. طبيب عصامي تحدّى الأزمات


* جنوبيات

الدكتور غسّان صبحي سليم حمود يرحل عن عمر يُناهز (85 عاماً)، بعد مسيرة حافلة بالعطاء، طبيباً ناجحاً، مُبدعاً، ومُؤسّساً لصرح تحوّل إلى مُستشفى جامعي، كأحد أهم المراكز الطبية في لبنان.

تربّى في عائلة صبحي سليم حمود، مع شقيقيه المُهندسين فؤاد وأمين، على نُبُل الأخلاق، والنهل من العلم، والإلتزام بالقضايا الوطنية والقومية، وفي الطليعة القضية الفلسطينية.
تعدّدت الجلسات واللقاءات مع الدكتور غسّان حمود (المولود في 8 نيسان/إبريل 1937 في مدينة صيدا)، وقد حدّثني الطبيب الإنسان، عن رحلته التعليمية، ودراسته للطب في "الجامعة الأميركية" - بيروت، التي تفوّق فيها ليتوجّه بمنحة دراسية إلى ألمانيا، ويتخصّص بالجراحة النسائية والعامة، حيث اقترن هناك بزوجته الألمانية باربرة لنغه، ورُزِقا بكريمتيه الدكتورة زينة وديانا.
في العام 1966 وصل إلى صيدا، لم يتمكّن من إيجاد عمل بسهولة، فاختار أنْ يبدأ خطوة تلو أخرى، فكان المنزل الذي ورثه والده صبحي، وسط بساتين صيدا، وبعيداً عن الضوضاء، الركيزة الأولى، فتمَّ بناء طابقين للمُستشفى، وخصّص غرفة لقسم العمليات والتوليد وأخرى للأشعة.
حدّثني والدي، صديق عائلة صبحي حمود وأبنائه الثلاثة، كيف تميّز الوالد ببصمةٍ تجاوزت مهنته كخيّاط حرفي، جعل مقصده الميسورين، بعدما ذاع صيته، ما مكّنه من شراء حِصَص أشقائه من إرث والده في الأراضي التي تملّكها آل حمود بين البوابة الفوقا وسهل الصباغ، وكانت رؤيته الثاقبة بأنّ خير استثمار، هو استثمار الإنسان في أولاده.
لذلك، ركّز على تعليم أولاده: فؤاد، أمين وغسّان، الأولان كمُهندسين والثالث كطبيب، انطلق بمجهود شخصي، وانتمى إلى "حركة القوميين العرب"، والخلية التي كان يترأسها شقيقه المُهندس أمين، وتوطّدت علاقته أكثر بصديقه رفيق الحريري، الذي أصبح لاحقاً رئيس وزراء لبنان، فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان لاحقاً، عدنان الزيباوي، الدكتور جورج حبش، الدكتور وديع حداد، ومُحسن إبراهيم، الذي اقترن بإبنة عمّه سميرة، كريمة مُفتي صيدا الأسبق الشيخ أنيس حمود.
تحوّل المُستشفى ذو الطابقين، ليس فقط إلى مركز طبي، بل إلى مُلتقى لاجتماعات المُناضلين من أجل قضية فلسطين، التي وعى نكبة أهلها، وهو في سن الحادية عشرة، وتعرّف إلى أبنائها، واختار طريق النضال لأجلها باكراً.
كانت الظروف صعبة، والإمكانيات ضئيلة، فكان يجري تحويل العمليات الحرجة والصعبة إلى بيروت، ومع تطوّر الوضع الأمني وانطلاق العمل الفدائي الفلسطيني من جنوبي لبنان أواخر ستينيات القرن الماضي، بدأت المُستشفى باستقبال الجرحى من اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي، ما اضطر إلى توسيعها وزيادة المبنى بأربعة طوابق.
قبل الاجتياح الإسرائيلي، كانت المُستشفى مُلتقى لعقد من الاجتماعات التي شارك فيها الرئيس ياسر عرفات مع القيادات الصيداوية، يوم حاول البعض توتير الأجواء بين أبناء صيدا والثورة الفلسطينية، فوئدت الفتنة.
في حزيران/يونيو 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عزل الاحتلال الجنوب عن باقي المناطق، فاتخذ الدكتور غسّان حمود قراره باستحداث قسم لغسيل الكلى، مُستعيناً بعلاقاته في ألمانيا، التي خاطر وسافر بنفسه للاجتماع مع أصدقاء العمل هناك، ليتسلّم 7 ماكينات مع لوازمها كافة، نُقلت عبر "الصليب الأحمر الدولي" إلى بيروت، ومنها إلى صيدا، وكانت كفالة سداد ذلك، اسمه وعلاقته بتسديد كلفتها ومصاريفها بالتقسيط، وتطوّر هذا القسم باستحداث زرع عمليات كلى.
علاقة الدكتور غسّان حمود الوطيدة بالرئيس الحريري، جعلته مُمثّلاً سياسياً لـ"أبي بهاء"، خلال فترة الغزو الإسرائيلي في حزيران/يونيو 1982، وبعد التحرير في شباط/فبراير 1985.
خاض الدكتور غسّان حمود تجربة الانتخابات النيابية في العام 1992، عن أحد المقعدين السنيين في مدينة صيدا، ونال 57185 صوتاً، لكن لم يُحالفه الحظ!
مع تزايد أعداد المُصابين بالقلب، افتتح الدكتور حمود قسماً مُتخصّصاً بجراحة القلب، الذي أصبح واحداً من أبرز الأقسام في لبنان والشرق الأوسط، الذي أراد من خلاله تأكيد أنّه يُريد الخدمة الطبية على طريقته.
ثم طوّر المُستشفى إلى عمليات طفل الأنبوب، وصولاً إلى تحويله لـ"مُستشفى أكاديمي جامعي" بتوقيع اتفاق التبادل والتعاون العلمي مع "مركز جورج واشنطن الجامعي" في الولايات المُتحدة الأميركية و"جامعة بيروت العربية"، فضلاً عن مركز تقويم النطق، ومراكز العناية الفائقة والأشعة المُتطوّرة.
اضطر الدكتور غسّان إلى إجراء عمليات لم يكن قد درسها، أو مرَّ بمثلها في حياته الدراسية، وإدارة عمل المُستشفى الذي واكب كل تطوّر، وخرّج أطباء ومُبدعين بما يتجاوز لبنان إلى خارجه، ووزراء ونوّاباً وأصحاب مراكز مرموقة.
مَنْ تعرّض لصعوبة في بداية حياته العملانية، فتح المجال أمام الأطباء للتدريب والعمل، بتوفير فرص عمل للآلاف، ما أمَن عيشاً وفيراً لعائلات تمكّنت من أن تعيش بكرامة، وتؤمّن التعليم لأبنائها، ومنهم مَنْ أمّن له العمل في المُستشفى.
استحق الدكتور غسّان حمود التكريم في مجالات عدّة، ونال أوسمة مُتعدّدة، وجوائز الجودة العالمية.
الدكتور غسّان حمود، الطبيب، صاحب الوجه البشوش، والابتسامة التي لا تُفارق ثغره، والذي زف بشرى الولادة لعشرات الآلاف، مُتواضع وخجول، نموذج للرجل العصامي.
الطبيب الذي حمل مبضع الجراحة، سار به في طريق الإنسانية، بعيداً عمّا سلكه كُثر بالتجارة الطبيّة، وأنفق كل ما جنى، بل استدان من أجل تأمين تسيير العمل في المُستشفى، على الرغم من الديون الباهظة التي تراكمت كمُستحقات عليها، مُقابل حقوق لها على مُؤسّسات الدولة وغيرها... أثقلت كاهل إدارتها، ولم يجد من يُنقذ هذا الصرح الذي يُشكّل منارة مُضيئة في مدينة صيدا، إلى أنْ كان انتقال كامل أمانة المُستشفى إلى عائلة عميس في بداية العام 2021، وأبُقي اسم "مُستشفى الدكتور غسان حمود الجامعي" على مساحة 11 دونماً، مُوزّعة  على 3 عقارات في منطقة الدكرمان العقارية، وسط مدينة صيدا، وفي محيط المكان، حيث سُمّي الشارع  باسمه.
يرحل وفي قلبه غصّات.. بعدما حقّق أكثر ما يُمكن تحقيقه، تاركاً مسيرة عطرة، وعملاً نافعاً، وبشرى أثلجت قلوب الكثيرين، وستبقى الغرسة التي زرعها يانعةً، وسيحفظ التاريخ اسم طبيب عصامي إنساني مُبدع، حقّق التميّز في مهنة اختارها.
رحم الله الدكتور غسّان حمود، صاحب السيرة العطرة، وتغمّده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله ومُحبيه الصبر والسلوان.

المصدر :اللواء