خمسون عاماً مرّت على جريمة اغتيال "المُوساد" الإسرائيلي غسان كنفاني (36 عاماً)، صباح يوم السبت في 8 تموز/يوليو 1972، في بيروت، واستشهدت معه ابنة أخته لميس حسين نجم (17 عاماً).
يكفي ذكر اسم غسان كنفاني، للإشارة بأن الحديث هو عن أحد أبرز الشخصيات الإعلامية والأدبية العربية، التي صهرت نشاطها وإبداعاتها في بوتقة واحدة، حملت هموم قضية فلسطين.
غسان كنفاني، المُناضل، والسياسي، والكاتب، والفنان والإعلامي، عضو المكتب السياسي لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" والناطق الرسمي باسمها، على الرغم من السنوات القصير التي عاشها (36 عاماً) ما بين ولادته في 9 نيسان/إبريل 1936، في قضاء عكا في فلسطين المُحتلة، واستشهاده بتاريخ 8 تموز/يوليو 1972 في بيروت، استطاع بموهبته الخارقة، أن يُوجه سهام كلماته ورسوماته، كالرصاص باتجاه المُحتل الإسرائيلي.
أدرك العدو، خطورة التعبئة الإعلامية والفكرية، فركز على استهداف نخبة من الكتاب والإعلاميين، كانت مع غسان في بيروت، ثم مُمثل "مُنظمة التحرير الفلسطينية" في روما الدبلوماسي والسياسي والأديب وائل عادل زعيتر، بتاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 1972، و3 أعضاء من اللجنة المركزية لحركة "فتح": كمال ناصر، كمال عماد عدوان ومحمد النجار "أبو يوسف" في منطقة فردان في بيروت بتاريخ 10 نيسان/إبريل 1973، قبل أن تطول القائمة...
إبراز حقيقة قضية شعبه
خبر غسان كنفاني ميزة تراب فلسطين، التي ولد فوق ثراها في قضاء عكا، لعائلة تعود بأصولها إلى يافا، قبل أن يخرج مع عائلته، وهو في سن الثانية عشر إلى لبنان ثم سوريا، لتبدأ بعد ذلك جولته بين الدول العربية، إلى أن احتضنه بيروت، وهو المطارد، فاستقر بها.
تيقن غسان باكراً أهمية إبراز حقيقة قضية شعبه، فجسد ذلك بمقالات في إحدى صحف الكويت بتوقيع "أبو العز"، ولبنان عبر "الحوادث" التي كتب بها باسم مُستعار ربيع مطر، ثم "الصياد" و"الحرية" و"الهدف" و"المُحرر".
وفي أي من هذه الوسائل الإعلامية لم تُغيره المراكز التي تبوأها، بقي كما هو، مُتواضعاً دمث الأخلاق، مُحباً للجميع يتسابق الزملاء في محبته.
وفي المجلس الإعلامي المُوحد برئاسة كمال ناصر، برز دور غسان ورفاقه لإبراز عدالة القضية الفلسطينية.
حكايتي مع الأديب الكبير غسان كنفاني، ألخصها من خلال 3 مُحطات:
- الأولى: وعيت باكراً على هذا الاسم، من خلال والدي (سليم زعيتر)، الذي كان في طليعة المُلتحقين بـ"حركة القوميين العرب"، ويحرص على إرسالي لشراء جريدة "المُحرر"، التي كان يكتب فيها غسان كنفاني.
سمعت الكثير عنه، وكيف استطاع "نادي الشباب العربي الفلسطيني" في مُخيم عين الحلوة، الذي كانت تتألف هيئته الإدارية من: والدي، صلاح صلاح، سليم أبو سالم، نصار موعد، إبراهيم حسين، سعيد الصالح وأحمد الشريدي، من تنظيم زيارة غسان إلى مُخيم عين الحلوة، وإلقاء مُحاضرة، وحينها اطلع على 3 رسومات للشاب ناجي سليم العلي، فنالت إعجابه، وأفسح له المجال، بنشر الرسمة الأولى له في مجلة "الحرية"، التي كانت تصدرها "حركة القوميين العرب"، بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 1961، العدد رقم 88، وهي عبارة عن خيمة تعلو قمتها يدٌ تلوح للحرية، فكانت بداية انطلاقة ناجي العلي، ليُصبح واحداً من أشهر مُبدعي رسم الكاريكاتور في العالم.
- الثانية: فوزي بـ"جائزة الشهيد غسان كنفاني"، التي نظمت في ذكرى استشهاده في مقر "المركز الثقافي الفلسطيني" في مُخيم عين الحلوة في العام 1980، وكانت عبارة عن مجموعة من الروايات الأدبية، بينها: "عائد إلى حيفا"، "رجال من الشمس"، "أرض البرتقال الحزين"، "أم سعد" و"عن الرجال والبنادق".
آني هوفا تستعيد شريط الذاكرة
- الثالثة: في الذكرى الـ50 لاستشهاد غسان، حين زرت رفيقة دربه، آني هوفا كنفاني، التي استعادة سرد أبرز المحطات في مسيرتها وغسان.
تحدثت "تعرفتُ إلى غسان والتقيت به في بيروت في العام 1961، بعد أن كنت ضمن وفد دنماركي في مُؤتمر طلابي، عقد في يوغسلافيا، شارك به وفد فلسطيني، تحدث أفراده عن قضيتهم، فرغبت بالاطلاع عن ذلك بشكل مُباشر، فتوجهت إلى دمشق ومنها إلى بيروت، حيث أوصلوني إلى غسان، الذي شرح لي عن قضية شعبه، وزرت برفقته المُخيمات الفلسطينية.
بعد حوالى 10 أيام، قام غسان بتعريفي على عائلته، وطلب مني الزواج، الذي تم بتاريخ 19 تشرين الأول/أكتوبر 1961، ورُزقنا بـولد وبنت: "فايز" ولد في 24 آب/أغسطس 1962 وليلى في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1966".
كان غسان يحب عمله بشكل كبير، فألف العديد من الكتب، جُمع منها 18، فضلاً عن الإصدارات والدراسات والمقالات التي نُشرت في صحف ومجلات عدة".
وعن علاقته بعائلته، أشارت إلى أنه "على الرغم من ضغط عمله، إلا أنه كان خلوقاً يحب الحياة ويكتب ويرسم كثيراً ويهتم بالأطفال بشكل خاص.
كان يُولي كل اهتمام بي وأفراد أسرته، خاصة لميس، ابنة أُخته فايزة التي كان يحبها كثيراً.
أحب لميس بشكل كبير، فكان يكتب ويرسم لها ويضع ذلك بالقرب من سريرها.
وأهداها قصة لمناسبة عيد ميلادها الثامن، في 21 كانون الثاني/يناير 1963، بعنوان "القنديل الصغير"، تضمن حكاية مع رسومات، قبل أن يترجمه لي باللغة الإنكليزية.
كانت لميس تعني له الكثير، فهي الأقرب إليه، وكان مشغوفاً بها، وهي تُبادله الحب، ومُتعلقة به، إلى أن استشهدا معاً".
عن لحظات اغتيال غسان، التي وقعت بعيد العاشرة من صباح السبت في 8 تموز/يوليو 1972، أمام المنزل الذي يُقيم فيه في منطقة الحازمة، واشترته شقيقته فايزة، حيث انفجرت عبوة وضعها "المُوساد" تحت مقود سيارته من نوع "أوستن" - ليقودها بنفسه، لأنه لم يرضَ بأن يكون لديه سائق - عندما أدار المُحرك... تصمت آني باستعادة لحظة الذهول أمام المشهد ذاته الذي وقفاته حينها، فتقول: "غادر غسان المنزل، وكانت معه لميس، لكن لحقت به ابنتنا ليلى (6 سنوات)، تريد التوجه معه، فأبلغها بأنه مشغول، وأعطاها قطعاً من الشوكولا، كانت معه في السيارة، لأن غسان كان يحتفظ بكمية منها، يشتريها عندما يتمكن من ذلك، ويعطيها إلى الأطفال الذين يحبهم، وهو لا يتناول منها لأنه مريض سكري.
غادرت ليلى، وما أن أدار غسان محرك السيارة، حتى وقع الانفجار، فاستشهد مع لميس، ودفنا سوياً في مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية في بيروت".
عن سر توجه "مُؤسسة غسان كنفاني" التي أنشأتها آني، والتركيز على الأطفال، أوضحت "أن غسان كان يحب الأطفال كثيراً، يكتب القصص والروايات ويرسم لهم، وكُثر من طلابنا كانت لديهم حالات خاصة، فأقمنا مراكز في العديد من المُخيمات في لبنان، علمناهم، ونمينا فيهم ما كان يحب غسان من كتابة ورسم وأشغال، فأبدعوا، والآلاف منهم تخرجوا وأصبحوا في مراكز مرموقة".
عن كلمتها بعد مُرور 50 عاماً على استشهاد غسان، تختم آني لتقول: "اغتال الإسرائيليون غسان وهو في سن الشباب، لكن ما زال غسان ولميس أحياء، نتذكر الكثير عنهما، وغسان كان خلوقاً ويُعبر عن قناعاته وآرائه بالكلمة والرسم، له صداقات كثيرة، وإن اختلف البعض معه في الآراء السياسية، فذلك أمر مُهم جداً. وكتب أشياءً كثيرة عن فلسطين والطفولة والأمور الاجتماعية.. اغتالت "إسرائيل"، غسان، لكن اسمه وأعماله ما زالا حاضرين".
أعمال خالدة
بعد مرور 50 عاماً على استشهاد غسان كنفاني، أضحى اسمه عالمياً، بأعمالٍ إبداعيةٍ، ترجم من خلالها قناعاته وأفكاره وما يشعر ويحس به، كُتباً وقصصاً وروايات، ومسرحيات وأفلام، وحلقات إذاعية، وبُحوث أدبية، ومنها ما تُرجم إلى لغاتٍ عدّة.
بقي اسم غسان، عابراً للجنسيات والبُلدان واللغات، في رحلة "رجال في الشمس"، و"العودة إلى حيفا"، و"أرض البرتقال الحزين"، و"عالم ليس لنا"، مع "القنديل الصغير"، و"أم سعد" و"موت سرير رقم 12" وغيرها...
كان غسان على يقين أنه يُسابق الزمن، وهو الذي ترافق مع صفة اللاجئ، ومرض السكري، فعندما حذره مصطفى الزِّبري "أبو علي مصطفى" بضرورة أخذ الحيطة والحذر من استهداف العدو الإسرائيلي له (بعد عملية مطار اللد الشهيرة، التي نفذها مُقاتلون من "الجيش الأحمر الياباني" بالتعاون مع "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، بتاريخ 31 أيار/مايو 1972، ما أدى إلى مقتل 40 إسرائيلياً وجُرح 90)، كان جوابه لهم: هل يُفكر العدو بشخص مثلي، مريض سكري، وأنا أعيش يومياً أترقب لحظة الموت بالسكري؟!".
كانت "أبر الأنسولين" تُرافقه بشكلٍ دائم، وكتب رسالةً قبل سنواتٍ من استشهاده عن مُعاناته مع هذا الداء، بعنوان "أمشِ في جنازتي".
حقاً لقد كانت جنازة غسان ضخمة، في بيروت التي أفسحت ضيائهاً ليضيء من شمعة إبداعه، واحتضنه ثراها، ليكون أول شهيد يُدفن في مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية، وإلى جواره لميس، ومن ثم قافلة الشهداء، على أمل نقل الرفاة في رحلة العودة إلى يافا وفلسطين.