«إذا احتجنا يوماً ما إلى تذكير مرئيّ بالقبضة المستمرّة الّتي يمارسها الأوتوقراطيون الأثرياء بالنّفط على السّياسة الخارجيّة للولايات المتّحدة في الشّرق الأوسط، فقد حصلنا عليها اليوم». «ضربة قبضة واحدة تساوي ألف كلمة». (عضو الكونغرس الدّيمقراطيّ «آدم شيف»)
بمثل هذه العبارة وعبارات أقسى علّق سياسيّون وإعلاميّون على مجمل زيارة «بايدن»إلى السّعوديّة.
«الاشارات السّلبية»، حسب صحيفة «الاندبندنت» البريطانيّة، بدأت من الاستقبال بالمثل في المطار، فالولايات المتّحدة تكرّم ضيوفها، رؤساء الدّول، في البيت الأبيض ولا تستقبلهم في المطار، وهكذا فعلت السّعوديّة مع «بايدن» خلافًا لما فعلته مع الرّؤساء العرب في الزّيارة نفسها، حيث استقبلهم وليّ العهد في المطار!
وصل بايدن بسيّارة «ليموزين» وترجّل وحيدًا، لم يكن وليّ العهد محمد بن سلمان في انتظاره، بل خطا خطوات معدودات قبل أن تلتقط الكاميرات «المشهد العار»، حسب رأي الكاتب في صحيفة «واشنطن بوست» «فريد راين»، الّذي لاحظ «استرخاء وليّ العهد وبروده» في مقابل ابتسامة «بايدن»الخجولة!
واكتمل حظّ «بايدن»العاثر بالابتسامات السّاخرة الّتي علت وجوه ولي العهد ومستشاريه، عندما توجّهت صحفيّة أمريكيّة بسؤال محرج إلى «بايدن»، قبيل بدء الاجتماع الثّنائيّ بين قيادتيّ البلدين: الرّئيس بايدن، هل ما زالت السّعوديّة دولة منبوذة؟!
بهذا الاستفهام الإنكاريّ كذّبت الصّحفيّة الغاضبة رئيس بلادها، الّذي حمل رفع شعار «جعل السّعوديّة دولة منبوذة»بذريعة الدّفاع عن حقوق الانسان، بعد اتّهام «بن سلمان» بالتّورّط في جريمة اغتيال «جمال خاشقجي».
وكان «بايدن» قد أكّد في 17 حزيران الماضي، بأنّه لن يلتقي وليّ العهد السّعوديّ، ثمّ التقاه، بعد أقلّ من شهر، على مدى أكثر من ساعتين ونصف السّاعة!
العالم معتاد على الازدواجيّة الأمريكيّة عندما يتعلّق الأمر بمصالحها الإستراتيجيّة، خصوصًا بعدما نصّبت نفسها «رسول الرّبّ، وأنّ مصالحها مقدّسة» كما وصفها الرّئيس الرّوسيّ «فلاديمير بوتين».
ولكنّ الأهمّ، ماذا حقّق «بايدن» من زيارته؟
في الشّكل أيضًا، وإن لم يكن تفصيلًا عابرًا، دشّن «بايدن»أوّل رحلة مباشرة بين «تل أبيب»و «جدّة»، وهذا تطوّر غير مسبوق في شكل العلاقة العلنيّة بين المملكة العربيّة السّعوديّة، بما تمثّله من وزن دينيّ واقتصاديّ في العالمين العربيّ والإسلاميّ.
فهل سارت السّعوديّة في مسار التّطبيع؟!
قال الكاتب الأمريكيّ «توماس فريدمان» في مقال نشرته «نيويورك تايمز»السّبت الماضي: «السّلام مع السّعودية هو جائزة كبرى لإسرائيل، وسيفتح الباب أمام السّلام مع كلّ العالم الإسلاميّ ومنفذ على كمّ هائل من الاستثمارات، وقد أخبرني المسؤولون السّعوديّون البارزون أنّ دعمهم لن يأتي مجانًا..
وأضاف: لقد تمت مناقشة شروط تطبيع العلاقات على مرحلتين:
- تبدأ المرحلة الأولى بفتح مكتب تجاريّ في «تل أبيب» يقوم بالتّعامل مع المصالح الاقتصاديّة السّعوديّة، مقابل موافقة «إسرائيل» على مبدأ «حلّ الدّولتين»ووقف كلّ عمليّات البناء الاستيطانيّ في شرق الجدار الأمنيّ في الضّفّة الغربيّة.
- تأتي المرحلة الثّانية مع نهاية الاحتلال الإسرائيليّ وتوقيع اتّفاقيّة سلام مع الفلسطينيين، وقد وعدت السّعوديّة بفتح سفارة في تل أبيب» وأخرى في «رام الله» أو غرب «القدس»، وأن تتعهّد بالحفاظ على الوضع القائم في الأقصى.
إذا صحّ كلام «فريدمان»فهذا يعني فشل «بايدن»في إقناع السّعوديّة بتطبيع العلاقات مع «إسرائيل»، وبالتّالي فشل خطّة دمجها مع محيطها العربيّ بأيّ ثمن، والمسار الّذي أشار إليه «فريدمان»يتطلّب وقتًا طويلًا، وإرادة «صهيونيّة»بالقبول بحلّ الدّولتين، وهذه الإرادة غير متوافرة حاليًّا، ودونها عقبات كثيرة، يصعب على أيّ حكومة صهيونيّة تحمّل تبعاتها.
واستتباعًا لما سبق، فقد فشلت فكرة «النّاتو الشّرق أوسطيّ»لاعتبارات عدّة أبرزها غياب الرّؤية الموحّدة بين الحلفاء المفترضين حول الأهداف الإستراتيجيّة لهكذا حلف، وحول تشخيص العدوّ المفترض، أي إيران.
أمّا الهدف الأساس من زيارة «بايدن»فيتعلّق بحماية أمن الطّاقة العالمي، عبر زيادة إنتاج النّفط في محاولة لتخفيض أسعار البترول والتّخفيف من وطأة التّضخّم الّتي تشلّ اقتصادات الدّول الغربيّة.
وعدت كلّ السعوديّة والإمارات بمناقشة المسألة في اجتماع «أوبيك +»الشّهر المقبل، هذا إذا عقد الاجتماع، وفيه روسيا، المستهدف الأوّل من طرح «بايدن»والشّريك الجديد لدول الخليج العربي مع الصّين.
وفي محاولة لرمي كرة الفشل على الزّمن، والتّخيف وطأتها، قال رئيس الوزراء الإسرائيليّ «يائير لابيد»: «إنّ زيارة الرّئيس الأمريكيّ جو بايدن حقّقت إنجازات لن يُسمح بالحديث عنها إلا بعد سنين»، يذكّرنا كلام «لابيد» بكلام «جورج بوش»بعد حرب تمّوز 2006: «إسرائيل»حقّقت انتصارًا كبيرًا ستظهر نتائجه بعد سنوات»!
أمّا الحقيقة الماثلة أمامنا، والّتي لا تحتاج إلى زمن كي يظهرها فهي أنّ «بايدن» عاد، خالي الوفاض، من حيث أتى، وأنّ «بوتين» سيأتي غدًا إلى إيران ليملأ فراغًا عجز الأوّل عن ملئه!
سيمشي القيصر مزهوًّا فوق السّجّاد الإيرانيّ، ويتكلّم بنبرته الرّوسيّة الحازمة، ويلقي بنظرات بعيدة، مع ابتسامة ساخرة، على حكومات أوروبيّة هرمة، منها من سقط ومنها من ينتظر بعدما بلغت خسائر الاتّحاد الأوروبيّ المباشرة أكثر من 400 مليار دولار بسبب فرض العقوبات ضد روسيا.
هكذا قال «بوتين»لمنتدى «بطرسبورغ»الاقتصادي الدولي وقال أيضًا: «إنّ العالم أحاديّ القطب قد انتهى، والأوهام الجيوسياسية عفا عليها الزّمن!