الثلاثاء 26 تموز 2022 15:26 م |
ناي البرغوثي: الحضور الموسيقي لفلسطين في العالم |
* جنوبيات
مع الموسيقى نشأت المغنية وعازفة الفلوت الفلسطينية ناي البرغوثي، وارتبطت بها منذ لحظات حياتها الأولى، وكبرت وهي محاطة بالفنون والثقافة والجمال. لكنها نشأت أيضاً مع القضية الفلسطينية، في حقبة من حقبها التاريخية، وفصل من فصول المأساة الممتدة، منذ أن احتل الصهاينة أرض فلسطين، وجولة من جولات المعركة مع العدو الإسرائيلي. فلم ينفصل الخيال لديها عن الواقع، ولم يبتعد الفن عن القضية، بل اقترن كل منهما بالآخر، وامتزجا بشكل طبيعي في وجدانها، بلا صراع أو تنازع حول مساحة أكبر في النفس، فالفن يدعم القضية، والقضية تُذكي الإبداع والرغبة في الحياة والاستمرار، وتتخذ الفن كوسيلة من وسائل المقاومة. الغناء في الأمم المتحدة غنت ناي البرغوثي في الأمم المتحدة عام 2013، احتفالاً باليوم الوطني للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكانت آنذاك لا تزال فتاة صغيرة في السادسة عشرة من عمرها. وافتتحت حفلها بعزف منفرد على الفلوت، تلاه عزف متقطع بين فواصل بعض الأغنيات عند التوقف عن الغناء. بثقة كاملة وقوة كبيرة، وقفت تلك الفتاة الصغيرة في ذلك الوقت، لتؤثر في الحاضرين على اختلاف ألسنتهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية، وكانت تقدم لهم شرحاً لبعض أغنياتها قبل أن تبدأها، من خلال جمل قصيرة مختصرة باللغة الإنكليزية، كالأغنيات التي تتحدث عن بعض الأماكن الفلسطينية مثل شوارع القدس. في حفل الأمم المتحدة، لم تقتصر ناي على تقديم أغنيات تتعلق بالقضية الفلسطينية، بل حرصت على إظهار صورة مشرقة ومضيئة للفن العربي بشكل عام، وما فيه من ثراء وغنى، بلهجاته المتعددة، وألوانه الموسيقية القديمة والحديثة. وكانت الفرقة الموسيقية المصاحبة لها، أقرب إلى التخت الشرقي القديم المضاف إليه بعض الآلات الغربية القليلة. بدت ناي أثناء غنائها في الأمم المتحدة، مدركة لحجم المسؤولية التي حملتها في تلك اللحظات، وتحملها عموماً في مسيرتها الفنية، وهي أنها تعبر عن فلسطين كوطن وأصل وهوية، وأرض عزيزة، وكل ما هو فلسطيني من ثقافة وعادات، وأخلاق وذوق وصفات، ورؤية وأسلوب حياة. وغنت ناي أيضاً في ذلك الحفل باللغة الإنكليزية أغنية «لا أعرف كيف» التي تتحدث عن التعجب من تعايش بعض الناس مع الظلم، والقبول به والتعامي عن جرائم الاحتلال. وتتميز ناي بإتقان الغناء باللغة الإنكليزية بشكل ممتاز، والقدرة على الانتقال من الغناء العربي إلى الغناء الأجنبي، بسهولة تامة ومراعاة دقيقة للتفاصيل والتقنيات التي يفرضها كل نوع منهما، وطبقة اللغة وإحساسها أيضاً. ومن أجمل ما شدت به ناي في الأمم المتحدة، أغنية «راجعين يا هوى» للسيدة فيروز، وزادها جمالاً عزفها على الفلوت بين مقاطع الأغنية، والمشاعر التي خلقتها ناي بصوتها لدى المستمع، الذي لا يصله سوى أنها تغني عن الرجوع إلى فلسطين.
طلاقة الغناء بتقنيات متعددة
تتحرك ناي البرغوثي في مساحة غنائية رحبة واسعة، فهي لا تغني على وتيرة واحدة، ويستطيع المستمع أن يصغي إليها في العديد من الألوان العربية والأجنبية. فهي ابنة الموهبة والتعليم الموسيقي الرفيع، سواء في فلسطين أو في أمستردام، حيث أكملت دراستها الموسيقية، ويغلب عليها طبع الجد والاجتهاد، ويلازمها الحرص على حسن الأداء دائماً. وذلك التنوع في فنون الغناء لديها، إنما هو دليل على قوة الصوت ومرونته، واتساع مداه، وقدرته على الانسجام مع تقنيات متعددة قديمة وحديثة، بالإضافة إلى ما تضيفه هي من فنونها الخاصة التي تتمثل في الارتجال، والارتجال الموسيقي أو الغنائي هو فن التفكير في المقام الأول، حيث يكون التفكير ملازماً للعزف والغناء لحظة بلحظة، أو سابقاً لهما بثوان قليلة، وحتى هذا الارتجال يجده المستمع لديها في أشكال مختلفة، منها العربي الخالص، ومنها الأجنبي الخالص. والعربي المتأثر بأسلوب الجاز وتقطيعاته النغمية، حيث تميل ناي البرغوثي إلى الجاز كثيراً، وتسعى عملياً إلى التقريب بين الموسيقى الشرقية العربية وموسيقى الجاز، والغناء العربي وأساليب الجاز في الأداء. كما يقترن الارتجال لديها بالعزف بالصوت، أو الغناء بغير كلمات، وتقوم أحياناً بهذا النوع من الأداء، بطريقة تتشابه إلى حد ما مع الأداء الصوتي في الموسيقى الهندية، الذي يصاحب آلة السيتار عادة. وللمواويل والليالي عند ناي مكانة كبيرة، حيث تُمتع من خلالهما السامع بقدراتها الصوتية، صعوداً ونزولاً، وارتفاعاً وانخفاضاً، والانتقال بسلاسة بين المقامات، وهما من أقوى الوسائل لديها في تحقيق لحظات الذهاب بالسامع إلى أقصى درجات الطرب. من أقدم أنواع الغناء العربي إلى أحدثها، مروراً بمراحله الزمنية بين هذا وذاك، تنتقل ناي البرغوثي بمهارة لافتة، تكشف للسامع عن موهبة لا تتكرر كثيراً. ويزداد إعجاب السامع أيضاً، عندما تنتقل إلى الغناء الأجنبي، فيتحول صوتها تماماً لفظاً وحساً وتنغيماً، ويُظهر قوة أخرى، وتمكناً له قواعده المغايرة تماماً للغناء العربي. تغني ناي مع فرق موسيقية مختلفة، كفرقة أمستردام الأندلسية المغربية، وتظهر في العادة مع فرقة شرقية صغيرة تشبه التخت إلى حد ما، وتغني أحياناً بمصاحبة البيانو فقط أو القانون، أو مع فرق موسيقية غربية يغلب عليها طابع الجاز، في حفلاتها التي تقدمها في البلدان الأجنبية.
ناي والفلوت تعزف ناي البرغوثي على الفلوت منذ طفولتها، والفلوت هو الناي الإفرنجي كما يقال، أو هو النسخة الغربية من آلة الناي، التي عرفتها بعض الحضارات الإنسانية القديمة، من بينها الحضارة الفرعونية في مصر. وبعد ذلك أصبح الناي من أهم الآلات الموسيقية الشرقية، التي تميز موسيقى العرب وتمنحها طابعاً شاعرياً، ولوناً قاتماً إلى حد ما يميل إلى الحزن والأسى. تحمل ناي البرغوثي إذن اسم الآلة الموسيقية العربية، التي هي الناي، وتعزف على صنوها الغربي أو الأجنبي، الذي هو الفلوت. ويتوافق هذا مع شخصيتها الفنية، المنغرسة بجذورها عميقاً في الثقافة العربية، والمنفتحة بشكل كبير على موسيقى العالم بأسره، وثقافاته الموسيقية المختلفة. وفي صوتها يجد المستمع شجناً يشبه الشجن الموجود في صوت الناي، الذي يئن حنيناً للغاب الذي اقتطع منه، كما يقول جلال الدين الرومي. فهي أيضاً تنشد التئام الوطن بكامل أراضيه، وعودة من اقتطعوا عنه، أو من اقتطع منهم، أن يلتحم الجزء بالكل، والفرع بالأصل. وفي صوت ناي يجد المستمع أيضاً رقة الفلوت، ونعومة نغماته وشجنه، وحزنه الذي يتشابه مع صوت الناي الحزين، ويختلف عنه في الوقت نفسه. فعلى الرغم من التقارب بين الناي والفلوت، إلا أن لكل منهما نظامه الصوتي الخاص، وتقنيات العزف عليه. والفلوت من الآلات الهوائية الخشبية، وله حضوره الثابت في الأوركسترا السيمفونية، واعتمد عليه الكثير من عظماء الموسيقى الكلاسيكية، في التعبير عن اللحظات العاطفية الرقيقة، المشوبة بالحزن في مؤلفاتهم الموسيقية، وللفلوت قدراته المرحة الخفيفة أيضاً. يضع العزف على الفلوت عبئاً مضاعفاً على ناي كمطربة، خصوصاً من ناحية التنفس، فهي تبذل جهداً مضاعفاً في هذا الأمر، الذي يبدو مرهقاً، لكنه تمرين جيد في الوقت نفسه. يظهر أثره على صوتها الذي يخلو من مشكلات التنفس، بالإضافة إلى المرونة الهائلة، فأي مطربة أخرى تتخذ من لحظات التوقف عن الغناء خلال الأغنية، فرصة لإراحة التنفس قليلاً والصوت أيضاً. لكن ناي تستطيع أن تغني، وبمجرد أن تتوقف عن الغناء، تعزف فوراً على الفلوت، وتصاحب الفرقة الموسيقية كعازفة، ثم تتوقف عن العزف، لتعود إلى الغناء مرة أخرى بشكل طبيعي، وبلا أثر لجهد مضاعف مبذول. وهذا يدل على كم التدريبات الشاقة التي خضعت لها منذ الصغر، والالتزام الصارم، والاعتناء الجاد بالصوت ومهارات العزف.
أغاني فلسطين عندما تغني ناي البرغوثي عن فلسطين، لا تهدف إلى إثارة انفعالات عاطفية وقتية، تستغرق زمناً ما وتذهب بعدها، بل إنها تهدف إلى غاية أكبر وأبقى، هي التأثير الحقيقي في السامع، الذي تجعله يصغي إليها بهدوء وروية، خصوصاً السامع غير العربي. ولا يعني ذلك أنها تغني بضعف وفتور، فإنها تجهر بالغناء بعزيمة مخلصة، ووطنية صادقة وموهبة ساطعة، وتترجم بصوتها عن فلسطين والفلسطينيين وكل ما هو فلسطيني. فهي قطعة من فلسطين تجوب العالم، لتذكر الجميع بوجه فلسطين وصوت تلك الأرض، وغناؤها هو صرخة الحياة والحرية في وجه الموت والاحتلال. فقد تفتح وعيها كبقية أطفال فلسطين على ألوان الوحشية والطغيان، والظلم والقوة الغاشمة. وكانت تواجه الجنود الإسرائيليين في مواقف مختلفة، عندما يقتحمون عمارتها السكنية مثلاً، أو عندما يفتشونها على الطرقات، ويظنون الفلوت الذي تمسك به يدها الصغيرة عندما كانت طفلة، سلاحاً. كما تروي ناي بنفسها في بعض حواراتها التلفزيونية، كل هذا جعلها تدرك منذ طفولتها، معنى أن تكون فلسطينية في هذا العالم، وفي تلك الحقبة الزمنية التي تعايشها، وحجم المسؤولية التي تحملها تجاه وطنها وأرضها المحتلة. حتى وهي بعيدة عن هذا الوطن وتلك الأرض، من أجل الدراسة أو الحفلات الغنائية. ولشعراء فلسطين حضورهم في عالم ناي الموسيقي، كالشاعر الفلسطيني محمود درويش، التي قامت ناي بتلحين إحدى قصائده وغنائها. وهي قصيدة فكر بغيرك، وتظهر ناي في فيديو الأغنية وهي إلى جوار عازف القانون الفلسطيني المبدع خليل خوري، الذي يصاحبها دائماً في حفلاته، ويعمل أيضاً على تنفيذ أغانيها.
تغني ناي لفلسطين وعن فلسطين بحس فلسطيني أصيل، وبحزن عميق، وبقوة أيضاً وابتسامة أمل ويقين في التحرر والانتصار، وإن طال الأمد. وكم هي كثيرة ومتعددة ملامح الوجود الفلسطيني في أغاني ناي البرغوثي، وموسيقاها وصوتها، فلديها أغانيها الخاصة الحديثة عن فلسطين. كأغنية «نشيد الأرض» الصادرة حديثاً، والتي أهدتها إلى الشعب الفلسطيني، وإلى روح الشهيدة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، المراسلة الصحافية الشجاعة، التي اغتالتها قوات الاحتلال الإسرائيلية منذ شهور قليلة. وهي قصيدة للشاعر الفلسطيني أوس شاهين، قامت ناي بتلحينها وتوزيعها، وغنتها بمشاعر قوية تسري حرارتها وصدقها إلى المستمع، وتصله بكل كلمة من كلمات القصيدة التي تقول في بعض مقاطعها: «يا شعبي قاوم لا تيأس، لا ترضى عتم النسيان، سوف يُثمر هذا الصبر، سوف ينكسر الهوان». صورت ناي نشيد الأرض في فلسطين، حيث تسير مع جمع من الناس، وفي فيديو الأغنية تظهر صورة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، ولقطات مصورة توثيقية من جنازتها المهيبة. بينما تغني ناي: «انهض يا شعبي كالموج، حتى إن طال الغياب، أرضي وجه لا يمحى، أرضي يا ملفى الأحباب». ومن أجمل أجزاء هذه القصيدة، ذلك المقطع الذي يقول: «صار الليل صرنا المنفى، لكن آت فجرنا، حان الآن وقت العودة، نادت أرضي أهلنا، يا شعبي قاوم لا تيأس، حاصر قيدك والآلام، أرضي شمس لا ترحل، أرضي يا قوت الأيام». وألفت ناي بنفسها بعض الأغنيات عن القضية الفلسطينية، كتابةً وتلحيناً وتوزيعاً، ومن هذه الأغنيات أغنية «وإشي». وهي من أقدم أغنياتها التي ألفتها عندما كانت صغيرة، وتتحدث عن المقاطعة ورفض التطبيع والدعوة للحراك، وتقول في بعض أجزائها: «أبيخ منك والله، الله ما خلق، مفكر حالك إشي، وأنت بلا إشي، حتى بالسياسة عقلك تيس وقاسي، تسبحلي ببحر يافا، وتقول محلا إسرائيل». حتى الأغنيات القديمة التي لا تتناول فلسطين، ويعود وجودها إلى بدايات القرن العشرين، تغنيها ناي بعد إضافة بعض التعديلات، والتغييرات القليلة في الكلمات، فتبعث فيها روحاً فلسطينية، وتجعلها تُسمع بإحساس جديد. كأغنية «أهو ده اللي صار». تقول الأغنية في نسختها المصرية: «مصر يا أم العجايب، شعبك أصيل والخصم عايب، خلي بالك م الحبايب، دولا أنصار القضية». وفي نسختها الفلسطينية تقول: «أرضي يا أم العجايب، شعبك أصيل والخصم عايب، خلي بالك م الحبايب، دولا أنصار القضية». هذه الأغنية الخالدة هي لسيد درويش، الذي لو كان معنا ولا يزال يعيش بيننا، لأهدى فلسطين ألحاناً رائعة، وتغنت بها أصوات فلسطين الجميلة كصوت ناي.
المصدر :جنوبيات |