يرجّح المؤرّخون بأنّ الفضل بتسمية مدينة بيروت بإسم «أمّ الشّرائع» يعود إلى الإمبراطور الرّومانيّ «سبتموس سفيروس» الّذي أسّس أكبر وأهمّ معهد للقانون في سائر أنحاء الامبراطوريّة المترامية الأطراف.
وزاد من أهميّة دراسة القانون أن جعلها شرطاً أساساً للتّوظيف العالي في الدّولة الرّومانيّة وعلى هذا سار الزّمن وصار لبيروت أسماء كثيرة لا تموت، لعلّ أعمقها وأكثرها قدراً «أمّ الشّرائع»!
ولكن، أين بيروت العهد القويّ من بيروت العهد الرّومانيّ في احترام الدّستور والقانون؟!
مرّ عامان على الانفجار الرّهيب، وما زلنا نبحث عن الحقيقة بين أكوام دعاوى الردّ وكفّ اليدّ.
مرّ عامان وآذاننا تضجّ بطنين التّحليلات والاجتهادات السّياسيّة والطّائفيّة على النّصوص القانونيّة والدّستوريّة!
عامان وبيروت تخبّئ وجهها المشوّه ببقايا اهراءاتها، ولم يستحِ بعض أبنائها من بثّ الهراءات على إسفلت المؤتمرات وشاشات القنوات.
عامان من الانتظار، والنّتيجة: لا عدالة ومَن يحزنون!
لقد كُتب الكثير وقيل أكثر في انفجار المرفأ، لكن الأجدى كانت بعض التّقارير الصّحفيّة والتّحقيقات الاستقصائيّة الّتي غطّت فراغ السّلطة القضائيّة وزوّدت اللّبنانيين ببعض الحقائق الّتي تجاهلها قاضي التّحقيق الثّاني، لانشغاله بالبروباغندا الإعلاميّة واستغلاله لعواطف أهالي الضّحايا، وكلّ اللّبنانيين ضحايا، فركب موجة الثّورة بدل أن يمتطي حصان الدّستور، وأغرته مقدّمات النّشرات الإخباريّة الّتي صوّرته فارساً خارجاً من صفحات العصور الوسطى ليقطع بسيف القانون رقاب السّاسة اللّبنانيين بعدما عجزت عن جزّها هتافات المعترضين أيّام تشرين، فاكتشف بعد حين الفرق بين أوهام «دون كيخوت» وحقيقة «وليام بواتييه».
في الجلسة التّشريعيّة الأخيرة لمجلس النّوّاب، وعملاً بأحكام المادة 80 من الدستور، تمّ انتخاب أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء والوزراء بالتّزكية، ولكن، لماذا الآن؟
للتّذكير، فإنّه بتاريخ 24/11/2020 تقدّم قاضي التّحقيق لدى المجلس العدليّ «فادي صوّان» بقرار إلى مجلس النّوّاب، استناداً إلى المادّتين 70 و71 من الدّستور اللّبناني، اللّتين تمنحان مجلس النّوّاب حقّ اتّهام ومحاكمة الرّؤساء والوزراء، يقضي بتزويد المجلس بالمستندات والمعطيات اللّازمة لاتّهام ومحاكمة من تحوم حولهم شبّهة جدّيّة من الرّؤساء والوزراء.
وممّا جاء في القرار:
«لمّا تبيّن لقاضي التّحقيق وجود شبهة جدّيّة على كلّ رؤساء الحكومات، والوزراء الّذين تعاقبوا على تولّي حقائب: المال والأشغال والعدل منذ سنة 2013 حتّى سنة 2020، بأنّهم أخلّوا بالواجبات المترتّبة عليهم.
فإنّه يقتضي إحالة جميع المستندات والأوراق الّتي من شأنها إثبات هذه الشّبهات إلى المجلس النّيابيّ إفساحاً في المجال أمامه لممارسة صلاحياته الدّستوريّة...».
ردّ الرّئيس نبيه برّي عبر الأمانة العامّة لمجلس النّوّاب بالطّلب من قاضي التّحقيق تزويد المجلس بالمعطيات والأدلّة والمستندات الّتي تؤكّد هذه الشّبهات، ليصار إلى إجراء المقتضى القانونيّ والدّستوريّ.
وفي انتظار ردّ «صوّان» على رسالة المجلس كانت المفاجأة بأوّل خطوة استنسابيّة خالف فيها «صوّان» قراره، قافزاً فوق الدّستور بالادّعاء استنسابيًّا على كلّ من: رئيس الحكومة حسّان دياب والوزراء: علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فينيانوس!
هذه كانت أوّل طعنة في ظهر العدالة، وباقي حلقات مسلسل طعن القضاة بجسد القضاء يعرفه اللّبنانيّون.
في المرفأ قتلى وجرحى ومتضرّرون، ومُحتَضرٌ، يُدعى الدّستور، يلفظ آخر أنفاس القانون.
الرّحمة لأرواح الضّحايا، والعافية لمن تبقّى من الجرحى، ومنهم الأمّ المظلومة «ليليان شعيتو» واللّعنة على من قتل ثقة اللّبنانيين بالقضاء والسّلطة والدّولة!