الاثنين 12 أيلول 2022 17:12 م

الأزمة الأوكرانية والارتباك الأوروبي


* جنوبيات

صحيح أن المعارك الطاحنة على الأرض الأوكرانية بين الجيش الروسي والجيش الأوكراني تأخذ الحيز الأكبر من المادة الإعلامية بروايات مختلفة، لكن كما يبدو فإن استمرار المعارك ليس هو الأكثر أهمية من آثار الأزمة على صياغة العلاقات الدولية وترتيب خرائط جديدة للتحالفات والاشتباكات، بما يشبه نتائج الحرب العالمية الثانية..

في القراءة الأولية لآثار الأزمة نجد أن أوربا الغربية هي الضحية المباشرة الأكبر، ليس فقط للنقص الحادث عن انخفاض توريد الغاز من روسيا فهذا عبارة عن قاطرة أزمات تتلاحق في مفاصل الاقتصاد الأوروبي والمجتمعات الاوربية، فالتضخم والبطالة وتعطيل مصانع وارتفاع أسعار المواد الغذائية وتدهور قيمة اليورو هي النتائج السريعة التي تتبدى للمتابع عن كثب.

ويرى البعض أنه لم يكن لأوروبا في الحرب ناقة ولا جمل، وكان يمكنها الابتعاد عنها أو تقليل الخسائر الى حد بعيد، فهي حرب بين الامريكان والروس، فلقد توافق الظرف التاريخي لدى الطرفين لاتخاذ خطوة لتحقيق أهداف استراتيجية كونية له، حيث أحس الروس أنه قد آن الأوان لإعادة ترسيم العلاقات الدولية بعيدا عن تسلط القطب الأوحد - أمريكا - في الوقت الذي أدرك الأمريكان أنه لا بد من وضع حد للطموح الروسي في فرض نفسه قطبا دوليا مسنودا بتحالف استراتيجي مع الصين التي يمثل اقتصادها تحديا كبيرا للاقتصاد الرأسمالي لا سيما الأمريكي.

لقد استمرت العلاقات طبيعية بين أوربا وروسيا على صعيد التزود بالمواد الأساسية من روسيا ولم تشهد أي توتر حتى في عهد الاتحاد السوفياتي، ولقد توسعت عملية نقل الغاز بأنابيب إضافية عن طريق بحر البلطيق بين روسيا وألمانيا، ومن الواضح أن الغاز الروسي يمثل أكثر من 40 بالمائة من احتياجات أوروبا للغاز كما يتم استيراد معادن ثمينة وغازات نبيلة تدخل في صناعة الإلكترونيات في أوروبا، كما تضخ روسيا وأوكرانيا كميات معتبرة من الحبوب والزيوت بمعنى واضح أن أوروبا تتداخل في تشارك تجاري حيوي مع روسيا وتعتمد اعتمادا كبيرا على هذا التداخل.

في بداية الازمة حاولت أوروببا الغربية النأي عن الموقف الأمريكي تجاه روسيا إلا أن الضغط الأمريكي بلغ مداه عندما ألزمت المانيا بعدم تشغيل الأنبوب الأخير الذي انفقت فيه أكثر من 10 مليار دولار، والذي كان يمكن أن يزود المانيا ومن ثم اوروبا بكميات إضافية، خضعت أوروبا للمنطق الأمريكي، بعد ان شهدت السنوات الأخيرة مساجلات بين الأوروبيين والأمريكان بخصوص إعادة ترتيب الناتو الذي لم يعد الأوربيون يرون فيه منظمة حقيقية وارتفعت الأصوات في أوروبا بضرورة بناء جيش أوروبي بعد ان تمكنت من جعل اليورو مرجعيتها التجارية، وحاولت ان ترسخ  مؤسسات الاتحاد الأوروبي، رغم الضربة التي مثلها انفصال بريطانيا عن الاتحاد الذي تعرض منذ بداية تشكله لمؤامرات أمريكية متوالية و من جهتها تكررت التصريحات الامريكية لاسيما في عهد ترمب بأن أوروبا قارة عجوز لا يمكن التعويل عليها..

جاءت الحرب لكي تضع أوروبا لا سيما فرنسا وإسبانيا وألمانيا وسواها من دول الاتحاد الأوروبي نفسها أمام الازمة العنيفة تبدأ بضرورة استقبال الملايين من الأوكران النازحين والدفع بالأسلحة والذخائر لأوكرانيا وتقديم مساعدات نقدية وسياسية وامنية ولوجستية لأوكرانيا..

هذا في حين لم تستطع أمريكا الوفاء لأوروبا بتعويضها عما نقص من الغاز الروسي.
المعركة في أوكرانيا لا تحسمها جولة هنا أو هناك، أو تقدم هنا وتراجع هناك، فهي كما قال الروس: لا بد أن تنهي هيمنة أمريكا على القرار الدولي، وكما قالت أمريكا: يجب ان تنتهي قوة روسيا في تشكيل خطر على أي دولة مجاورة، لهذا فان المعركة لن تنته غدا، الأمر الذي سيفاقم الضغوط الاقتصادية على المجتمعات الأوروبية ويجعل الساسة الأوروبيين في حالة من الارتباك ولكن مع التزامهم بالسياسة الامريكية.

المصدر :جنوبيات