الأسير البطل ناصر أبو حميد ابن العائلة اللاجئة المناضلة، يرفض، وهو يصارع الموت في باستيلات الاحتلال، مخاطبة رئيس دولة الاحتلال من أجل الافراج عنه وهو في أيامه الأخيرة. هكذا يكون النضال وهذا درس للأجيال بأن ثمن الحرية غالي، وأن كرامة المناضل لا يمكن أن تباع وتشترى مهما كان الثمن.
التقيت والدة الأسير البطل ناصر أبو حميد، وكم أثر بي هذا اللقاء مع امرأة صابرة صامدة مناضلة أم أسرى وأم شهيد، وعانت كثيرة من ممارسات الاحتلال ولكنها لا زالت تمدنا بالأمل بأن دحر الاحتلال على مرمى حجر.
أم ناصر أبو حميد نموذج يحاول الاحتلال كسره، ولكن هيهات أن ينال مبتغاه، فعلى امتداد الوطن السليب وفي الشتات والمنافي هناك عشرات لا بل مئات النماذج، التي تمدنا بالأمل. هناك من قال بأن اتفاق أوسلو قضى على النضال الوطني وقسم الشعب الفلسطيني، ولكن أنا لا زلت وسأبقى مؤمن بأن أوسلو هو عبارة عن مرحلة سوف تنتهي، فهو كاتفاق لم نستطع أو لم يكن يراد منه قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، بعاصمتها القدس، وهذا ما كان يسعى اليه الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات، وهذا ما قاله لي قبل التوقيع بفترة قليلة، بأن أوسلو هو الخطوة الأولى نحو الدولة واقنعني بهذا الأمر، ولكن جرت الرياح بما لا يخدم شراع سفينة المشروع الوطني، وعلينا الآن أن نعيد التفكير جذريا بالأسلوب والاستراتيجية التي ستوصلنا إلى مبتغانا في التحرر والعودة وبناء الدولة. فدولة الاحتلال قائمة على أساس نفي الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ولم تكن يوماً تفكر بإعطاء الشعب الفلسطيني شيء، لا دولة ولا حتى حكم ذاتي أو إدارة ذاتية، فأساس الفكر لهذه الدولة هو عنصري احلالي، وأرادت لإتفاق أوسلو أن يكون جسراً لتمرر من خلاله هذا الفكر العنصري القائل بأن أقصى ما يمكن أن يحصل عليه غير اليهودي على هذه الأرض هو أن يعيش عبداً لها دون أي حقوق، هذا ما جاء في إعلان بلفور، وهذا ما تريد إكماله حكومة الاحتلال باقرارها القوانين العنصرية وفي مقدمتها قانون "الدولة اليهودية"، وغيرها من القوانين اللاأخلاقية.
الهجوم المركز التي تشنه دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني، وتصريحات قادة الاحتلال التي تبرر عمليات القتل اليومية للفلسطينيين، هدفها أساساً كسر معنويات هذا الشعب، لن تمر ولن يكون لها أي صدى، لأنه وببساطة شديدة لم يعد لدى الشعب الفلسطيني أي أمل بأن دولة الاحتلال تريد "السلام"، بل هي تسعى لتحويل الشعب الفلسطيني إلى مجرد عبيد لديها منقسمين على أنفسهم ليس لهم أي حقوق مدنية أو سياسية، وهذا الأمر ليس جديدا بل هو في صلب السياسة الاحتلالية منذ إعلان بلفور عام 1917.
لذلك، ومن أجل تقويض السياسات الاحتلالية بتجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه المدنية والسياسية واعتباره مجرد أقلية في وطنه، قمنا برفع دعوى قضائية ضد إعلان بلفور أمام المحاكم الوطنية، واخذنا حكماً، ونستعد الآن لرفع قضية أمام المحاكم البريطانية ضد هذا الإعلان الغير أخلاقي والغير قانوني، ونعتقد بأن هذا الأمر هو مسمار في نعش الأفكار العنصرية للحركة الصهيونية ومن والاها من العجم والعرب.
نعلم تماماً بأن الطريق طويل وصعب، ولكن الإرادة وحب فلسطين ودرة تاجها "القدس" هي من يدفعنا إلى العمل دون كلل أو ملل، ولقد أكرمني ربي بأن عافاني من الوعكة الصحية التي ألمت بي وكادت أن تأخذ الروح إلى باريها، قبل أن أكمل ما بدأت به، ولكن إرادة الله حكمت بأن أكمل دربي نحو خدمة شعبي وقضيتي، وبخاصة القدس التي أعشقها.
على أبواب القدس تقف أم ناصر أبو حميد ومعها كل أمهات الشهداء/ات وأمهات الأسرى/ات، يقولون وبصوت واحد كفى انقسام وكفى مناكفات، فطريقنا واضح وبوصلتنا القدس، ومن لا يتبع هذه البوصلة فهو ليس منا، فهؤلاء النسوة العظام يعلمون بأن الطريق نحو فلسطين تبدأ بإنهاء الانقسام، وهنا أود الإشارة إلى أننا في التجمع الوطني للمستقلين وفي هيئة النوايا الحسنة لإنهاء الانقسام سوف نبقى أوفياء لدماء الشهداء، بأن نواصل عملنا من أجل توحيد الشعب الفلسطيني وتحويل كل تناقضاتنا الداخلية تجاه الاحتلال للخلاص منه، فقد تنبهنا ومنذ بدايته أن استمراره يعني ضياع المشروع الوطني، وهذا لا يمكن السماح به. وبعد العديد من المحاولات والجولات أملنا كبير بالشقيقة الجزائر لكي تخرجنا من هذا النفق المظلم، فهي المفوضة من الكل الفلسطيني وليس لها مصلحة خاصة إلا أن تصل بنا إلى بر الوحدة والوفاق، ونقول لها أملنا بك كبير ونثق بكل ما تقومين به من أجل فلسطين.
القدس لا زالت تنادي أين أنتم أولادي، أين أنتم مما يجري لي من تهويد وأسرله وضياع على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وعلى مستوى الوعي الوطني، لذلك وضعت وبالشراكة مع العديد من الأخوة الفلسطينيين والعرب والمسلمين وغيرهم هدفاً في المساهمة بحماية القدس من غول التهويد، فضياع القدس، لا سمح الله، يعني فقدان البوصلة، وتمرير ما يرده الاحتلال ليس فقط لهذه المدينة لا بل أيضاً للمشروع الوطني بشكل عام، فعلينا أن نوجه كل دعمنا المادي والمعنوي، الأهلي والحكومي، نحو تعزيز صمود هذه المدينة ببعدها التاريخي والديني والثقافي.
لا يمكن حماية القدس دون أن ننهي الانقسام ودون أن نعيد ترتيب اوضاعنا الداخلية وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة تعريف دور السلطة الفلسطينية، فهناك حاجة ملحة للاتفاق على برنامج سياسي نضالي يعيد البوصلة نحو القدس ونحو فلسطين، ويعيد الاعتبار لدماء الشهداء، ويعطي أمل للأسرى بأننا جميعاً معهم ولن نتركهم ليواجهوا مصيرهم وحدهم، وهنا لا بد من تقديم تحية أجلال واكبار لأبطال نفق الحرية في الذكرى الأولى لهذا العمل البطولي، فنحن بحاجة إلى الاتفاق على برنامج وطني قائم على أساس أن الشعب الفلسطيني شعب واحد في الوطن والمنافي والشتات، وأن العودة والحرية والاستقلال هي القواسم المشتركة عند (14) مليون فلسطيني لهم الحق في فلسطين، وهذا يقودنا إلى المطالبة بدولة ديمقراطية واحدة من النهر إلى البحر.
الحمل ثقيل، والدرب طويل، ولكن بالعمل والإرادة والنية الصادقة يمكن التقدم إلى الامام، فمن تجربتي على مدار أكثر من ثماني عقود أعلم تماماً بأنه مهما كان الدرب طويل يمكن أن نصل إلى هدفنا بالعزيمة والإرادة، وأقول بأن عودتي مرة أخرى إلى الحياة، ليست من باب العبث، فقد منحني ربي فرصة لأكمل ما بدأته من اجل فلسطين، فنعمل سوياً من أجل تعرية إعلان بلفور وهدم الأساس التي قامت عليه "دولة الاحتلال"، ولنعمل على ترتيب بيتنا الداخلي وإنهاء الانقسام والاتفاق على برنامج وطني شامل جامع، ولنحمي القدس درة التاج، وأنا خادم لهذه الأهداف فلنعمل سوياً قبل فوات الأوان.