السبت 15 تشرين الأول 2022 14:39 م

"عام 1916 لم يبقَ في ميس الجبل سوى ربع سكانها"... الكوليرا في لبنان من جديد


* منير قبلان

"يبعتلك هوا أصفر"؛ هذه الدعوة يستخدمها اللبنانيون في حياتهم اليومية من باب المزاح مع أصدقائهم، أو من باب تسليط "اللعنة" على أعدائهم، لكن الكثيرين يرددونها من دون أن يعرفوا ما هو الهواء الأصفر، وهو الكوليرا نفسها التي نعيش تداعيات انتشارها اليوم في لبنان.

يعرّف الطبيب المختص بالأمراض الجرثومية الدكتور جاك مخباط، في حديثه إلى رصيف22، الكوليرا، بأنها مرض ينتج عن جرثومة اسمها فيبريو كولوري Vibrio Cholerae، وهذه الجرثومة تسبب حالات إسهال حاد ‏خلال 24 ساعةً بعد الإصابة بها، وتترافق أحياناً مع حالات تقيّؤ، ويؤدي ذلك إلى جفاف الجسد، وليس ضرورياً أن يكون هناك ارتفاع في درجة حرارة الجسم.

‏لا يوجد شك في أن حامل هذه الجرثومة، ينشرها في الصرف الصحي بعد أن تخرج من جسمه، وتختلط لسبب ما بمياه الشرب أو بالمياه التي تُستعمل في ري المزروعات، وهذا يؤدي إلى انتشار الكوليرا بعد شرب هذه المياه أو تناول المزروعات، وفق ما يشير مخباط.

تاريخ الكوليرا

تشير الدراسات، بحسب أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية، الدكتور عماد غملوش، إلى أن أول ظهور للوباء كان عام 1817، في روسيا، بعد اختلاط مياه الشرب بفضلات البشر، وتسبب ذلك في موت نحو مليون شخص، وما لبث أن انتقل إلى القارة الآسيوية، فتفشّى في الصين وإندونيسيا وتسبب بوفاة أكثر من 100 ألف شخص بحلول عام 1820.

أول ظهور للوباء كان عام 1817، في روسيا، بعد اختلاط مياه الشرب بفضلات البشر، وتسبب ذلك في موت نحو مليون شخص

"وفي العام نفسه، انتشر الكوليرا في النيبال ومن هناك وصل إلى الهند حيث حصد أرواح عشرات الآلاف، وكان هناك جنود بريطانيون في الهند توفي عشرة آلاف منهم، ومع عودة عدد من الجنود إلى بريطانيا، انتشر الوباء في أرجاء المملكة، ومنها عمَّ جميع أنحاء أوروبا، كإسبانيا وألمانيا وفرنسا، كما وصل الوباء إلى كندا (كيبيك ومونتريال)، ودخل بعدها إلى نيويورك عام 1831". ويضيف غملوش في حديثه إلى رصيف22: "كان الانتشار سريعاً، فانتقل المرض من شخص إلى آخر، ومن مدينة إلى مدينة، بالرغم من محاولات العزل التي كانت تتم بين المدن، إذ كانوا يحاولون عزلها بشتّى الطرق، إلا أن ذلك لم يمنع انتشار المرض وظهوره على شكل موجات كل عشر سنوات في مختلف دول العالم، حيث حصد أرواح الملايين، نظراً إلى ضعف الطب في ذلك الوقت، وعدم إدراك تفاصيل المرض وانتشاره وسبل علاجه".

لبنان والكوليرا

في عهد السلطنة العثمانية عام 1828، كان الوباء منتشراً من الهند إلى إيران، ومنها إلى مناطق شرق المتوسط، ودخل إلى منطقة نفوذ السلطنة العثمانية التي كانت مسيطرةً على المنطقة العربية كلها، ومن ضمنها متصرفية جبل لبنان، فبدأ يفتك بسكانها، وقضى على عشرات الآلاف منهم في هذه الموجات.

كذلك، بسبب وجود الإرساليات الفرنسية القادمة من أوروبا إلى مناطق الشرق الأوسط، وخاصةً لبنان وسوريا، انتقلت الكوليرا عبرهم، وعام 1831 وصل الوباء الثاني عبر الحجّاج الذين نقلوه من مكة المكرّمة إلى لبنان، وفق ما يذكر غملوش.

عادت الكوليرا لتظهر في مناطق السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914، وانتشرت بكثرة في لبنان بدءاً من عام 1916، وحصدت أرواح الآلاف، ما أدى إلى موجات هجرة هرباً من الكوليرا، ومن التجنيد الإجباري الذي فرضته السلطنة، كما عادت لتظهر في أربعينيات القرن الماضي وسبعينياته.

بلدة ميس الجبل في قضاء مرجعيون في جنوب لبنان، شهدت وفاة العشرات من أبنائها بسبب الكوليرا، ويشير رئيس بلديتها عبد المنعم شقير، لرصيف22، إلى أنه في العام 1916، انتشرت عدوى سُمّيت بالريح الأصفر أو الهواء الأصفر أو الحمى الإسبانية؛ هكذا كان الأهالي يسمونها، فاجتاحت منطقة جبل عامل وأدّت إلى وفاة عدد كبير جداً من المقيمين، وأصبح عدد الوفيات يومياً بالعشرات".

ويضيف: "في ميس الجبل، هناك شخص اسمه عيسى حجازي، كان لديه ثلاثة عشر ولداً توفوا جميعاً بالكوليرا، حتى الذين قاموا بدفن موتاهم كانوا يموتون في اليوم التالي، فامتنع الناس عن الدفن وكانت تُترك الجثث في المنازل بلا دفن، خوفاً من انتقال المرض إليهم، فتصدّى الشيخ موسى قبلان الذي كان إماماً للبلدة لهذا العمل، وسعى إلى المحافظة على دفن الموتى".

ويشير شقير إلى أن ربع سكان البلدة قضوا بالوباء ونصفهم هاجروا، وبقي الربع الذي لا يزيد عن 700 شخص في ذاك الزمن في البلدة، مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

الكوليرا عادت

في الثامن والعشرين من آب/ أغسطس من العام الحالي، تم الإعلان عن ظهور مرض الكوليرا في سوريا، الأمر الذي دفع الناشطين في مجالات الصحة والبيئة إلى دق ناقوس الخطر للتنبّه من احتمال نقل العدوى إلى لبنان، خصوصاً أن هناك حركة عبور نشطةً بين البلدين، ومترافقة مع غياب أي إجراءات صحيّة على المعابر.

وما كان يُخشى منه حصل، إذ ظهرت حالات الكوليرا في مخيمات النازحين السوريين في شمال لبنان، وفي بعلبك (شرق)، وبدأت تزداد يوماً بعد يوم، وقد تم تسجيل أول حالة وفاة بالمرض في الثاني عشر من الشهر الحالي، وقامت وزارة الصحة بسلسلة من اللقاءات مع المنظمات الدوليّة لاستدراك الأمر والحد من انتشار الوباء، كما تشكّلت لجنة وزارية لمكافحة انتشار الكوليرا برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وضمّت وزراء الصحة والداخلية والبيئة والزراعة والصناعة والطاقة، ووضعت خطةً لمكافحة الكوليرا بالتعاون في ما بينها ومع المجتمع الدولي.

‏تتحدث رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحة اللبنانية، الدكتورة عاتكة برّي، لرصيف22، عن استحالة الحد من انتشار المرض في ظل بنية تحتية غير سليمة، فهذا المرض مرتبط بالبراز والفم، وتلفت إلى أن الاجتماع الذي عُقد في وزارة الصحة مع الفِرق والمنظمات الدولية والوزارات المعنية ركّز على ضرورة تضافر الجهود لتأمين مياه سليمة للناس في الدرجة الأولى.

الحد من الانتشار 

بالنسبة إلى علاج المصابين، يعوَّض على المصاب عن خسارة جسمه للمياه والمعادن، حسب الأطباء، بالمصل وشرب الماء، مع اتّباع الإجراءات الوقائية كتخصيص مرحاض للمصاب دون سواه، للحد من انتقال العدوى. ووفق الطبيب مخباط، يعطى المريض مضاداً حيوياً لمنع انتقال البكتيريا إلى خارج الجسم، وتجنّب انتقالها إلى الطبيعة.

وبحسب برّي، فإن الوزارة وبالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، أمّنت أقراص الكلور التي تُستخدم في التعقيم، ويجري إبلاغ الناس عن كيفية التعامل مع مرض الكوليرا داخل البيت، لكيلا يضطروا إلى الانتقال إلى المستشفى، فـ80% من الحالات يمكن معالجتها في المنزل من خلال الشرب والمصل في البداية. أما في حال لم يعالَج منذ البداية، فتتفاقم الحالة ويخسر الجسم كميات كبيرةً من المياه والمعادن والأملاح، ويصبح مضطراً إلى دخول المستشفى، وربما إلى العناية الفائقة وأحياناً قد يتسبب المرض بالوفاة.

‏التوعية والعلاج

‏من المهم تعريف المجتمع المحلي بطبيعة المرض، وكيفية انتقاله وسبل الوقاية منه، وكيفية معالجة المصابين، بالإضافة إلى بروتوكولات العلاج داخل المنزل والتعاطي مع المصاب، ولهذا قامت وزارة الصحة العامة بتوزيع منشورات وفيديوهات توعويةً، ووضعت خطاً ساخناً للاتصال (1787) للحصول على المزيد من المعلومات حول مرض الكوليرا.

وتبرز الدعوة إلى معالجة مشكلات الصرف الصحي وإصلاح الأعطال الحاصلة على الشبكات لمنع تداخلها مع مياه الشرب والخدمة، وإعادة تشغيل محطّات تكرير المياه المبتذلة، وكلّ هذا في سبيل الحد من انتشار البكتيريا، كذلك الرقابة المشددة على المساحات الزراعية لمنع ري المزروعات بمياه ملوّثة، وإبعاد الملوثات والملوثين عن مصادر المياه، وإلا فستكون المعالجة ناقصةً، إذ تجب معالجة الأسباب لا النتيجة.

الهواء الأصفر الذي نُعِتت به الكوليرا، لظن الناس في العصور الماضية أنه نتيجة فساد الهواء وتلوّثه بالجراثيم، أصبح محط كلام لدى اللبنانيين لأجيال وأجيال، فاعتادوا أن يستحضروه في دعواهم على أعدائهم، أو لمن يسيء إليهم لعلمهم بشدّة فتكه، وهو واقع نعيشه اليوم وكأننا في تلك العصور التي خلت، نتيجة إهمال البشر والدولة في آن.

المصدر :رصيف 22