خطفت مجموعة "عرين الأسود" الأضواء، وحظيت باحتضانٍ والتفافٍ شعبي كبير، خلال فترة وجيزة جداً، خاصةً بعدما تمَّ الإعلان رسمياً عن تشكيلها في 2 أيلول/سبتمبر 2022.
خطّط أفرادها، ونفّذوا وحقّقوا المُبتغى، بالتصدّي لقوّات الاحتلال الإسرائيلي، خلال الاقتحامات التي تقوم بها إلى مُدن ومُخيّمات وقُرى الضفة الغربية.
أرادوا أنْ يكون ثمن ذلك مُكلفاً، وليس نُزهةً للمُحتل والمُستوطنين، هادفين إلى حماية الأهالي الصامدين.
خلال أسابيع قليلة، أصبح لها تأثيرها وفعاليتها، وبات الاحتلال مُكلفاً، وتحوّلوا من الدفاع إلى الهُجوم، يُلاحقون المُحتلّين ولا ينتظرون قُدومهم.
شُبانٌ في ريعان العُنفوان، لا يبخلون بتقديم الأرواح، بل يتسابقون إلى النضال حتى الاستشهاد. قليلو الكلام، كثيرو الأفعال، وغالباً لا تُكشَف شخصياتهم إلا بعد الاستشهاد، أو النجاة من كمين أو تنفيذ عملية بطولية.
حتى الآن، لا يُعرَف مصدر تمويلهم، الذي يعتمد على شخصيات تُؤيّد العمل الفدائي من داخل فلسطين وخارجها. يلقون احتضاناً من الأهالي، وتزفهُنّ أمُهاتهن بالزغاريد عند الشهادة.
ثُلاثية ثوابتهم، ترتكز على:
1- السير على خُطى الشُهداء، ولن تقف المجموعة مكتوفة الأيدي، ولن تترك البُندقية، وستقوم بسحق العُملاء والخونة.
2- البنادق لن تهدُر رصاصها في الهواء، فالعدو هو الاحتلال الإسرائيلي.
3- أعضاء الأجهزة الأمنية أخوةٌ لنا، وسلاحُنا لن يتّجه إليهم.
ما يُميّز هذه المجموعة، أنّها ليست تنظيماً يعتمد التسلسُل الهرمي، من قيادة سياسية، بل إنّها من الشباب الثائر، في غالبيتهم ينتمون إلى "كتائب شُهداء الأقصى" - الجناح العسكري لحركة "فتح"، وأبناء عدد من أعضاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
انطلقوا بالتصدّي للاحتلال، في اقتحاماته للبلدة القديمة في نابلس، أو أثناء حماية المُستوطنين اليهود، خلال أداء طُقوسهم في قبر يوسف، وفي مُخيّم بلاطة للاجئين.
يتسابقون في العمل الفدائي بسريّةٍ وكتمانٍ، ويُؤمنون بالقتال حتى الشهادة، وعند التشييع لا يُلف جُثمان أي شهيدٍ بعلمِ فصيل، بل يجمعهم علم فلسطين، التي يُناضلون لأجلها.
في الكثير من العمليات الأمنية الإسرائيلية، فشل الاحتلال باعتقال المطلوب، الذي كان ينجح بالتواري من المكان المُستهدف بعد حصاره، بل إنّ زُملاءه يفتدونه بأرواحهم، بهدف تأمين نجاته.
أخفَقَ الاحتلال في إخماد لهيب المجموعة المُمتّد، أو تفكيك بُنيتها العسكرية أو خلاياها، على الرغم من استخدامه طرق عدّة، منها أدوات إلكترونية متقدّمة مثل برنامج "بيغاسوس".
وما أنْ يُزف شهيد من "عرين الأسود"، حتى يكون ذلك دافعاً لتسابُق الشُبّان للانضمام إلى المجموعة، حتى بات ذلك يُهدّد الاحتلال برفع مستوى العمليات وتنوّعها.
كُثُرٌ يتساءلون: كيف وُلِدَتْ مجموعة "عرين الأسود"؟، ومَنْ هو المُؤسِّس؟، وكيف استطاعت خلال فترةٍ قصيرة جداً، أنْ تلقى كل هذا التأييد والاحترام وانضمام الشباب بكل عُنفوان وتدريب وإصرار على النضال حتى الشهادة؟!
انطلقت مجموعة "عرين الأسود" من "كتيبة نابلس"، التي زفّت 3 من شُهدائها، من "كتائب شُهداء الأقصى" - الجناح العسكري لحركة "فتح"، الذين ارتقوا في كمين لقوّات الاحتلال الإسرائيلي، بتاريخ 8 شباط/فبراير 2022، بإطلاق مئات الرصاصات بطريقة وحشية واستعراضية، بجريمةٍ مُفجِعة وقاسية، وهم: أشرف مبسط، أدهم مبروك ومحمد الدخيل، والأخير هو صديق الشاب محمد العزيزي "أبو صالح" المعروف باسم "المُشتبك المُختفي"، والذي رفع صور صديقه في غُرفته الخاصة، بمنزله في حارة الياسمينة في نابلس.
استُشهِد العزيزي - وهو من مُؤسّسي المجموعة الأولى - في الحي الذي يُقيم فيه، في البلدة القديمة في نابلس، مع صديقه عبد الرحمن صبح "أبو آدم" - "أسد الاشتباك"، خلال مُواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي، بتاريخ 24 تموز/يوليو 2022.
كانت العملية الأمنية الإسرائيلية تستهدف قائد "كتائب شُهداء الأقصى" إبراهيم النابلسي، الذي عُرِفَ بأنّه قائد "عرين الأسود"، الذي نجا منها وافتداه زميلاه، لكن ظهر النابلسي مُشاركاً في تشييعهما.
بعدما أذاق إبراهيم النابلسي الاحتلال المرارة، وألحق بدورياته إصابات مباشرة، وشكّل قلقاً له، ونجا مرّاتٍ عدّة، تصدّى لدورية من قوّات الاحتلال، جمعت النُخبة من "اليمام" و"جفعاتي"، واستُشهِد في 9 آب/أغسطس 2022، بعد صُمودٍ ومُواجهة أسطورية، فأصبح رمزاً شعبياً ووطنياً، كما استُشهِد رفيقه إسلام صبح.
شُيّع جثمان إبراهيم النابلسي في نابلس، وتقدّمت حملة الجُثمان والدته الحاجة "أم إبراهيم"، في مشهد مُؤثّر خطف الأضواء، لأمٍ تزفُّ فلذة كبدها شهيداً بابتسامةٍ و"زلغوطة".
جرى تنظيم أوّل عرض عسكري لمجموعة "عرين الأسود"، في ذكرى أربعين الشهيدين العزيزي وصبح، اللذين رُفعت صورهما مع صور الشهيد غسان صبح، الذي اعتُقِل في العام 2009، وباسم أبو سرية قائد "كتائب شهداء الأقصى" في الضفة الغربية، وأحد مُؤسّسي مجموعات "فارس الليل"، الذي اغتيل في العام 2007، ويُعتقد أنّ "عرين الأسود" هي امتداد لظاهرة "فارس الليل"، وجرى الإعلان عن مُؤسّسي المجموعات العزيزي وصبح.
حضرت الاحتفال أُمهات الشُهداء، وظهرت صورة الرئيس الشهيد ياسر عرفات خلال حصاره، وهو يقول: "يريدوني إمّا أسيراً وإمّا طريداً، وإمّا قتيلاً"، فيرد خطيب الاحتفال: "إذاً، شهيداً، شهيداً، شهيداً".
خلال عرض التأبين، ظهر نوعان من المُسلّحين:
1- مُلثم يرتدي ألبسة عسكرية.
2- مُسلّحون مُلثمون يرتدون لباساً أسود مُوحّداً، ويضعون على فوهات بنادقهم عصبة حمراء.
بعدها، جرى إطلاق هاشتاغ "#كُلناعرينالأسود".
اعتمدت المجموعة على الإعلام، وبالتركيز على وسائل التواصُل الاجتماعي، وتوثيق عمليات التصدّي لدوريات الاحتلال وتصويرها، وتوزيع مقاطع فيديو عن ذلك.
هذا رفع من المصداقية، بإثبات القول مقروناً بالعمل، ما زاد من توافُق الشُبان للانضمام إلى هذه المجموعة.
ثم استُشهِد سائد الكوني، بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2022، عندما نصب كميناً لقوّات الاحتلال الإسرائيلي، على قمة جبل جرزيم - جنوبي نابلس، فجراً.
بعد شهر على اغتيال النابلسي، أُطلق النار على إسرائيلي أثناء قيادته سيارته بالقرب من قرية حوارة في الضفة الغربية، وتبنّت مجموعة "عرين الأسود" المسؤولية، حيث بدأ اسمها بالبروز، وتوالت المُواجهات، وبرز اسم مصعب اشتية كمسؤول عنها، لكن، رفضت "عرين الأسود" أيّاً من العرضين.
واستُشهِد تامر الكيلاني، أحد كوادر "عرين الأسود" في البلدة القديمة من نابلس، يوم الأحد في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2022، بعُبوة ناسفة في دراجة نارية، أثناء مُروره بحارة الياسمينة.
وتتواصل المُواجهات مع قوّات الاحتلال الإسرائيلي، حيث سُجّل مساء الثلاثاء وفجر الأربعاء في مدينة نابلس مُواجهة، حيث تعرّضت القوّات الخاصّة الإسرائيلية لإطلاق نار مُكثّف، واستُشهد 5 فلسطينيين بينهم القائد في "عرين الأسود" وديع الحوح، وأصيب آخرون.
وأمس الأول (الأربعاء)، داهمت قوّات الاحتلال البلدة القديمة في نابلس، بهدف تصفية عدد من كوادرها، قبل أنْ تعتقل شُبّاناً، بينهم شقيق الشهيد إبراهيم النابلسي، إياد النابلسي.
وذُكِرَ أنّ سُلطات الاحتلال قدّمت عرضاً إلى مجموعة "عرين الأسود"، بأنْ يقوموا بتسليم أسلحتهم مُقابل العفو عنهم.. وعرضاً آخر بأنْ يُسلّموا أنفسهم إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، ويدخلون السجن لفترة، مُقابل أنْ يلتزم الاحتلال بالعفو عن حياتهم وعدم مُهاجمتهم أو اعتقالهم.
توازياً، تبرز "كتيبة شُهداء جنين"، التي تتصدّى لقوّات الاحتلال داخل المدينة، وفي المُخيّم، وتُوقع قتلى وجرحى في صفوفه، وتمنعه من تحقيق الهدف من عملياته بتوقيف مُقاومين مطلوبين.
يبرز في طليعة القادة في مُخيّم جنين فتحي خازم "أبو رعد"، الذي كان مسؤولاً في أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وهو والد الشهيد رعد، الذي نفّذ عملية "ديزينكوف" في تل أبيب، واستُشهِد، في 7 نيسان/إبريل 2022، بمُواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي في يافا، ثم استُشهِد نجله عبد الرحمن خازم، في 28 أيلول/سبتمبر 2022، خلال مُواجهات عنيفة وقعت مع قوّات الاحتلال الإسرائيلي، عقب اقتحام مُخيّم جنين، ومُحاصرة منزله واستهدافه بصاروخ، ما ألحق به أضراراً كبيرة.
تقوم كوادر أساسية في حركة "فتح" بتقديم واجب العزاء بالشُهداء، وفي طليعة هؤلاء رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية الذي زار مُخيم جنين، وظهر إلى جانبه والد حازم رعد، وأكد أنّ "الدم الفلسطيني ليس رخيصاً"، وهو ما اعتبره المسؤولون الإسرائيليون زيارة لافتة لها أبعادها، لأنّه لا يُذكر أنّه التُقِطَتْ صورة سابقة لرئيس وزراء فلسطيني بجانب مُسلّحين.
وعلى الرغم من حجم المُواجهة في جنين ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكن في نابلس لها وقعٌ إضافي، لوجود مُستوطنات إسرائيلية عديدة هناك، وهذا يُهدّد وجودهم.
ولا شكَّ في أنّ الوضع في الضفة الغربية هو الأخطر مُنذ "الانتفاضة الثانية" - "انتفاضة الأقصى"، التي اندلعت في 28 أيلول/سبتمبر 2000 واستمرت حتى شباط/فبراير 2005. وهذا يُثبت أنّ كرة الثلج في فلسطين تكبُر، من الدهس والطعن بالسكين والبلطة إلى إطلاق النار.