الجمعة 28 تشرين الأول 2022 09:45 ص |
بالنظام - اللامركزية |
يوم أول من أمس كان يوماً علمياً ناجحاً في بيت المحامي الذي احتضن مؤتمراً عن اللامركزية. وأسباب النجاح تجدها أولاً في المناخ الذي توفرّه نقابة المحامين في بيروت لهذا النوع من النشاطات. هذا المناخ أتاح للجنة اللامركزية في النقابة ورئيسها المحامي فادي بركات، بأن تنجح في تنظيم مؤتمر غَلَب عليه طابع الاحتراف والجدية الهادفة، وتوصّل إلى خلاصات هامّة في مجال اللامركزية. صحيح أن اللامركزية في المبدأ مسألة إدارية وليست سياسية، لكنها في لبنان وكما كل شيئ تقريباً، سياسية وطائفية. وهي بنظر كثيرين تُخفي مطلب فئة معينة وتعويضاً عن فيديرالية أو تقسيم مستحيلَيْن. الدولة في لبنان منذ تأسيسها شديدة المركزيّة، ويحكم عقلها التشريعي الخوف من التفكك أو التقسيم. ومن هنا جاء تأكيد وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) على أن "الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية". وكأنّ واضعي الوثيقة آنذاك عبّروا عن طموحهم وخوفهم في آن. الخوف مردّه أنّ الدولة ضعيفة منذ نشأتها، وهذا لأسباب عديدة منها أنها قامت على منطق التسويات المرحلية التي لا تنفكّ تسقطُ عند تغيّر الظروف وموازين القوى. ولهذه الأسباب التاريخية التكوينية، الدولة تقع في موقعٍ أدنى من الكيانات السياسية الطائفية المسيطرة على القرار فيها، ولا سيما في فترة ما بعد الحرب. وهذه القوى تَستعمل أدوات الدولة المركزية للسيطرة على كل نواحي الحياة العامة، ومن بينها الوحدات اللامركزية، الموجودة حالياً أي البلديات واتحاداتها، وسوف تسعى حكماً ووفق المنحى الطبيعي للأمور إلى السيطرة على ما سوف يُنشأ من وحدات لامركزية. اللامركزية الموسّعة وردت في الإصلاحات التي أقرتها وثيقة الوفاق الوطني، التي أوجبت اعتمادَها على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء تأميناً للمشاركة المحلية. ولكنها لم تُدرج في الدستور من ضمن تعديلات العام 1990، ورغم ذلك تبقى موضوعاً شديد الأهمية والضرورة. مما أكّده المؤتمر الأخير أنّ لا فعالية للامركزيةٍ موسّعةٍ تَحكُمها القواعد البيروقراطية المتشددة، ولا جدوى من إحداث أية درجة من درجات اللامركزية من دون إصلاح جذري مركزي. وهو أمر بعيد المنال. والتجربة القائمة وهي البلديات تفيد بأن السلطات المركزية لا تمارس عليها رقابة قانونية وحسب بل هناك رقابة فعلية أو تسلطية: مالية، سياسية طائفية زبائنية... تُمارَس من خلال الأدوات القانونية المتوفرة للمُمسكين بالسلطة المركزية. والأمثلة كثيرة. من هذا المنطلق إن رقابة السلطات المركزية هي دائماً في خطر التحوّل إلى وسيلة لتعطيل مفاعيل اللامركزية مهما بلغت درجات تطويرها. وبالتالي إن أهداف اللامركزية لا تتحقق من دون تزامنها مع إصلاح في السلطة المركزية لأن الاستقلال النسبي مالياً كان أو إدارياً، يسهل تجاوزه وإقامة روابط التبعية البديلة. من أهم إضافات المؤتمر التأكيد على أنه لا يصح إحداث وحدات لامركزية جديدة من دون دراسات ميدانية علمية للمناطق، تشمل العوامل الجغرافية والطبيعية والسكانية والطاقات الكامنة فيها ومواردها.... أما مشاريع اللامركزية السابقة فقد تضمنت إصلاحات هامة ولكنها لم تستند إلى الدراسات المطلوبة فجاءت تقسيماتها قاصرة عن تحقيق الهدف من اللامركزية. أحواض المياه وكيفية توزّعها جغرافياً، لم تؤخذ بالاعتبار عند إنشاء مؤسسات المياه، وأدّى إلغاء لجان المياه المحليّة إلى الفوضى. وإنتاج وتوزيع الكهرباء من قبل مؤسسة مركزيّة أثبت فشله. والصرف الصحي ومعالجة النفايات بطريقة مركزية وصلت إلى نتائج كارثية، فلا بد من العودة إلى اللامركزية في كل هذه القطاعات، والجمع بين اللامركزية الإقليمية والمرفقيّة. المصدر :النهار |