الثلاثاء 1 تشرين الثاني 2022 14:16 م |
لماذا استمر المؤتمر القومي العربي لأكثر من 32 عاماً؟ |
* جنوبيات لا شك أن كثيرين يتساءلون عن سر استمرار المؤتمر القومي العربي على مدى أكثر من 32 عاماً دون أن يكون مستنداً إلى نظام يدعمه أو جهة تموّله، وبقي ملتزماً مواقفه المبدئية من كل قضايا الأمّة دون تفريط أو تطرف، متحملاً أحياناً كثيرة شتى أنواع الحصار والشيطنة والاتهامات التي أثبتت الأيام بطلانها، خصوصاً أن بعضها يناقض بعضها الآخر..
ولقد أتيحت لي فرصة مواكبة هذه التجربة منذ ولادتها كفكرة في ندوة أقامها مركز دراسات الوحدة العربية، وعلى رأسه القامة الوحدوية الكبيرة الراحل د. خير الدين حسيب، في 22 شباط 1988 في بيروت، حول "الحركة العربية الواحدة"، حيث قدّمت ورقة للنقاش خلصت إلى الدعوة إلى عقد مؤتمر عام يلمّ شمل القوميين والوحدويين على اختلاف مدارسهم كخطوة باتجاه توحيد عملهم من أجل تحقيق أهداف المشروع النهضوي العربي التي وصلنا إليها قبل أن تتم صياغة المشروع نفسه وإعلانه في 22 شباط/فبراير 2010. ثاني هذه النقاط تركيز المؤتمر القومي العربي الدائم على الصراع الرئيسي مع عدو الأمّة المتمثل بالمشروع الصهيو – استعماري والدعوة إلى إخضاع كل صراع آخر لصالح مواجهة ذلك الصراع الرئيسي والذي يرى في تحرير فلسطين بوصلة له لأنها الساحة الرئيسية التي تختزن كل الصراعات الأخرى التي تواجهها الأمّة. وثالث هذه النقاط استقلالية تجربة المؤتمر القومي العربي عن الواقع الرسمي في المنطقة، بكل تفرعاته وتجلياته، وعلى قاعدة بسيطة هي "لا تبعية ولا عداء"، فما من أحد يستطيع أن يسجّل على هذه التجربة تبعيتها لأي نظام أو جهة، أو يسجّل عليها غرقها في عداء مطلق مع هذا النظام أو تلك الجهة، بل حرص على التحلّي بقدر من الموضوعية في اتخاذ المواقف، فيؤيّد المؤتمر كل موقف أو مبادرة سليمة، وينتقد المبادرات السلبية والمخالفة لمبادئه. لقد عرّضه هذا المنهج في تحديد العلاقات إلى ضغوط ومشكلات عديدة، سواء ممن أراد إلحاقه بهذا النظام أو تلك الجهة، أو من حاول جرّه إلى صراع مع هذا النظام أو ذاك، فاكتسب احتراماً من الكثيرين بمن فيهم من لم يكن مرتاحاً لكافة مواقفه، كما بقي محطّ هجمات من يريد جرّه إلى متاريس الحروب الأهلية المعلنة أو المستترة في أمّتنا. رابع هذه النقاط إصرار المؤتمر القومي العربي على اعتماد أسلوب الحوار في حل الخلافات البينية، سواء بين أقطار الأمّة أو داخل كل قطر، واتخذ المؤتمر لنفسه شعاراً هو "جسور بين أبناء الأمّة، ومتاريس في وجه أعداء الأمّة"، وهو شعار يعبّر عن إدراك الأمّة أن مخطط أعداءها يقوم على إشعال حروب التقسيم والتفتيت والإقصاء والتخوين والتكفير داخلها، وهو ما شهدته بعض أقطارنا العربية في إطار ما يسمى "بالربيع العربي"، ولقد لقي أيضاً هذا الأسلوب اعتراضات وانتقادات وتهجماً من قبل من يريدون زجّ المؤتمر في آتون هذه الحروب وهو في أصله ليس حزباً سياسياً أو قوة عسكرية، بل هو إطار تحاور وتشاور لا يُلزم أيّاً من أعضائه بأي موقف خاص به شرط أن لا يلزم موقف هذا العضو المؤتمر كله. ومن هنا انطلقت من رحم المؤتمر والمؤتمرات الشريكة له مبادرات للحوار في سورية واليمن وفلسطين ومحاولات في مصر وليبيا، نجح بعضها جزئياً، وتعثّر البعض الآخر، ولكن بقي المؤتمر إطاراً يضم تحت سقفه آراء متعدّدة دون أن يفقده ذلك التزامه بمبادئه الأساسية وموقفه الواضح من المشروع الصهيو – استعماري في المنطقة. خامس هذه النقاط إن المؤتمر القومي العربي تبنّى منذ تأسيسه فكرة (الكتلة التاريخية) التي تضم كل تيارات الأمّة الرئيسية الملتزمة بالمشروع النهضوي العربي انطلاقاً من قناعة بسيطة، بأن ما من تيار، مهما بلغ حجمه، قادر على أن يتحمّل بمفرده أعباء النضال لتحقيق أهداف الأمّة ومشروعها الحضاري، وأن وحدة الأمّة وتحرير أرضها يتطلّب قيام مثل هذه الكتلة على مستوى القوى الحيّة في الأمّة وداخل كل قطر.. ورغم الخطوات الهامة التي قطعها المؤتمر على طريق قيام هذه الكتلة، إلاّ أن عوائق وصعوبات ما زالت تواجه هذا الأمر، لاسيّما في العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين، وهو ما يستدعي مواصلة العمل من أجل قيامها بعد إجراء المراجعة الضرورية من قبل كل الأطراف المعنية. سادس هذه النقاط أن المؤتمر القومي العربي على مدى العقود الثلاثة ونيف التي مرّت على تأسيسه كان حريصاً على أن يتخذ المواقف المبدئية من كل قضايا الأمّة، وإطلاق المبادرات العملية من خلال أعضائه في مواجهة كل الحروب والفتن والحصارات التي واجهتها أقطار هذه الأمّة. فكان أول مواقفه بعد تأسيسه في ربيع 1990، هو رفض الغزو العراقي للكويت، ورفض الحرب الاستعمارية على العراق وما رافقها من حصار على الشعب العراقي، وكان أعضاء المؤتمر في مختلف الأقطار العربية في طليعة من أقام لجان رفع الحصار عن العراق وتنظيم رحلات برية وجوية لكسر هذا الحصار، وهو موقف تواصل على مدى عقدين من الزمن، حيث كان أعضاء المؤتمر في داخل الوطن العربي وخارجه في طليعة المبادرين لرفض الحرب على العراق عام 2003، ورفض الاحتلال الذي رافقها وإفرازات ذاك الاحتلال، وقد ساهم المؤتمر بعقد مؤتمرات عربية ودولية، سياسية وقانونية، انتصاراً للعراق ومقاومته، وهو ما تسبّب بحملة كبرى ضد المؤتمر مستهدفة شيطنته بل وإدراج بعض رموزه على قوائم المطلوبين من سلطات الاحتلال. ولم يكن موقف المؤتمر المؤتمر القومي العربي من قضية فلسطين مختلفاً، فقد عارض المؤتمر منذ سنوات تأسيسه الأولى "مؤتمر مدريد" وأصدر بياناً تاريخياً فنّد فيه أسباب اعتراضه، كما أعلن معارضته الواضحة "لاتفاقية أوسلو" و "وادي عربة"، وقدّم بعض أعضائه ممن كانوا وزراء في الحكومة الأردنية استقالتهم بسبب تلك الاتفاقية.. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كان المؤتمر مع شركائه في المؤتمرات الشقيقة في طليعة المبادرين إلى تنظيم حملات ومسيرات ولجان ومجموعات التلاحم مع الشعب الفلسطيني وهي فعاليات ما زال أعضاء المؤتمر حتى اليوم، من المحيط إلى الخليج، في طليعة المتصدين لممارسات المحتل والمنتصرين لإرادة الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى مبادرة أعضاء المؤتمر القومي العربي في في إطلاق دعوات المقاطعة للعدو وداعميه ثم من خلال "المؤتمر العربي العام" إلى إطلاق حملات ومؤتمرات وفعاليات المطالبة بإسقاط "صفقة القرن"، كما بإسقاط كافة اتفاقات التطبيع في العديد من أقطار الأمّة. ومع بداية الحرب الكونية على سورية، كان أعضاء المؤتمر القومي العربي في العديد من أقطار الأمّة في طليعة من حذّر من مخاطر هذه الحرب التي تتذرع بمطالب إصلاحية مشروعة للشعب السوري من أجل تحقيق أهداف مشبوهة تتضح معالمها يوماً بعد يوم، وأبرزها تدمير سورية العروبة، مجتمعاً ودولة وجيشاً وبنى تحتية، وتمزيق وحدتها، واستباحة سيادتها، وتعطيل دورها القومي المقاوم، وسعى أعضاء المؤتمر إلى تنظيم عدّة فعاليات ومؤتمرات ضد تلك الحرب وما رافقها من حصار، كما أطلق مبادرات للحوار الداخلي في سورية لم يكتب لها النجاح بسبب دخول مبادرات رسمية عربية على الخط.
في اليمن، لم يكن موقف المؤتمر القومي العربي وشركائه مختلفاً، فقد أدان الحرب على اليمن وفيه، ساعياً أيضاً إلى حوار بين الأطراف اليمنية المتنازعة، وكلها لها ممثلون داخل المؤتمر، لكن هذه المبادرة تعثّرت أيضاً لأسباب ظاهرها لوجستي، وباطنها لا يعلمها إلاّ الله..
وسابع النقاط أن المؤتمر القومي العربي منذ تأسيسه وفي اجتماعه السنوي كان يعتمد في مواقفه على المبادئ التي قام عليها مع قراءة موضوعية "لحال الأمّة" على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والديمقراطية وحقوق الإنسان، في ضوء تقرير "حال الأمّة"، كما في ضوء تقارير سياسية تناقشها الأمانة العامة في اجتماعاتها الدورية، كما في دورات المؤتمر، بالإضافة إلى أوراق يعدّها أعضاء مخّتصون حول عناصر المشروع النهضوي العربي وما طرأ عليه من تطورات إيجابية أو سلبية خلال كل عام. ثامن هذه النقاط اعتماد المؤتمر المؤتمر القومي العربي في كل ما يقوم به على موارده الذاتية من اشتراكات وتبرعات ومن تحمّل أعضائه تكاليف سفرهم وإقامتهم إلى كل دورات المؤتمر التي يحضرونها، كما يتحمّل الشباب القومي العربي تكاليف سفرهم في كل المخيمات السنوية التي يشاركون فيها، وندوات التواصل الفكري التي يعقدها، وبهذا يؤكّد المؤتمر استقلاليته رغم أنه يقع دائماً في عجز مالي سنوي ينبغي أن تكون معالجته في رأس اهتمامات المؤتمر وأمانته العامة.
كما أن الإمكانات المحدودة للمؤتمر حرمته من أن تكون له صحيفة باسمه أو قناة تلفزيونية، ناهيك عن إطلاق منصة الكترونية متطورة تسمح لأعضائه بالتفاعل فيما بينهم، كما تسمح للمؤتمر أن يتواصل مع أكبر عدد من أصدقائه والمؤمنين بأهدافه. عاشر هذه النقاط هو حرص المؤتمر القومي العربي منذ تأسيسه على الإلتزام بالتقاليد والأصول الديمقراطية في اختيار أمينه العام وأمانته العامة عبر الانتخابات كل ثلاث سنوات تأكيداً لمبداء التداول في المسؤولية، وحرصاً على إشراك أكبر عدد من أعضائه من كافة الأقطار في تحمّل المسؤولية.
فبالإضافة إلى التنوع الواسع في الشخصيات التي جرى انتخابها في الأمانة العامة، كان هناك حرص على التداول في منصب الأمانة العامة حيث أصرّ الأمناء العامون جميعاً على الاكتفاء بدورة واحدة رغم أن اللائحة الداخلية للمؤتمر تسمح لهم بدورتين متتاليتين. إن نقاط القوة هذه، هي التي جعلت المؤتمر يستمر كل هذه السنوات، بل جعلت بعض أعضائه "الغاضبين" منه لسبب أو لآخر، يقاطونه ثم يدركون طبيعة دوره ويعودون عن مقاطعتهم ، ليجدوا صدر المؤتمر مفتوحاً لهم، لكن هذه النقاط لا تخفي نقاط ضعف واجهها المؤتمر في تجربته.
أول نقاط الضعف تكمن في عدم إدراك بعض أعضاء المؤتمر القومي العربي، حتى اليوم، طبيعته ومهمته ودوره، فبعضهم يريده حزبه الذي فقد ثقته به، وبعضهم يريده سيفاً ليشهره في وجه من يختلف معهم في الرأي أو حتى في الخلفية الفكرية والعقائدية، والبعض يريد أن يفرض عليه رؤيته أو رأيه دون أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة التنوع الذي يحرص المؤتمر عليه. وثاني نقاط الضعف تكمن في تسلّل بعض الأمراض التي عانت منها تنظيماتنا وأحزابنا ومؤسساتنا كالتكتلات والشللية وتغليب الاعتبارات الذاتية على الاعتبارات الوطنية والقومية وإشاعة أجواء التباعد بين أبناء التيار الواحد، وإثارة العصبيات الحزبية والصراعات القديمة، مما يؤدي إلى إضعاف المؤتمر وهزّ صورته أمام أعضائه والمؤمنين برسالته، ويسمح للمصطادين في الماء العكر لشن حالات وإطلاق شائعات لم تسلم أي دورة للمؤتمر منها. ثالث نقاط الضعف رغم حرص المؤتمر القومي العربي منذ تأسيسه أن يعتمد شروطاً صارمة للعضوية فيه، بحيث لا يضم إلاّ الأعضاء الفاعلين في مجتمعاتهم، سياسياً أو ثقافياً، حزبياً أو نقابياً، مؤسساتياً أو جمعوياً، إلاّ أن البعض قد نال عضوية المؤتمر لاعتبارات غير موضوعية، مما أثر على مستوى الإداء العام في المؤتمر، لاسيّما أن بعض هؤلاء ومع اكتسابهم العضوية قد بدأ يطمح إلى التسلق إلى مواقع أخرى ويعتمد كافة الوسائل لتحقيق ذلك.
رابع نقاط الضعف إن بعض الأعضاء يتعامل مع المؤتمر القومي العربي وكأنه منظمة قطرية يريد زجّه في الصراعات الداخلية في كل قطر، فيما المؤتمر هو إطار قومي شامل ينبغي أن يحرص على عدم غرقه في الصراعات السياسية داخل الأقطار، وهنا نسجّل للعديد من أعضاء المؤتمر تجنيبهم إثارة شؤونهم الداخلية في المؤتمر وإبقاء صراعاتهم السياسية داخل أقطارهم.
سادس نقاط الضعف إن التوازن الدقيق الذي يعتمده المؤتمر في مواقفه، بين المبادئ التي يقوم عليها من جهة، وبين الطبيعة المتعدّدة لتكوينه من جهة ثانية، وبين الظروف الواقعية التي يعيشها المؤتمر نفسه من جهة ثالثة، تجعله عرضة لنقد قاس من قبل البعض الذين لم يستطيعوا فهم طبيعة عمل المؤتمر وتنوع تركيبته ودوره. صحيح أن جائحة كورونا قد أوقفت بعض هذه الاجتماعات في بعض أماكن تواجد المؤتمر، لكن ضرورة عقد هذه الاجتماعات والتواصل بين الأعضاء في أماكن تواجدهم أمر في غاية الأهمية. نقطة الضعف الثامنة أن عدداً غير قليل من أعضاء أماناته العامة أو حتى أعضاءهيتجنب الإشارة إلى صفته كعضو في المؤتمر القومي العربي أو إلى مواقف المؤتمر خلال مقابلاته الإعلامية أو مقالاته الصحفية، فيما تمتلأ شاشات التلفزة وصفحات الصحف بإطلالات لأعضاء المؤتمر مما يوسّع دائرة العارفين بالمؤتمر وأهميته. أما نقطة الضعف التاسعة فتكمن في عدم الاهتمام كما ينبغي بالوضع المالي للمؤتمر الذي أصرّ أن يحافظ على استقلاليته من خلال تأمين موارده الذاتية من اشتراكات الأعضاء وتبرعات الأصدقاء..
صحيح أن أعضاء المؤتمر الذين يحضرون دورات المؤتمر السنوية يتحمّلون تكاليف سفرهم وانتقالهم، ويدفع معظمهم اشتراكاته، لكن هذا لا يعفي المتغيبين عن دورات المؤتمر عن تسديد اشتراكاتهم السنوية إلى أعضاء الأمانة العامة للمؤتمر في أقطارهم كما إلى جمع تبرعات من الأصدقاء، إذ لا يجوز أن يقع مؤتمر بهذا الحجم بعجز سنوي رغم ضآلة نفقاته.. كما أنه كلما توفر للمؤتمر موارد أكثر كلما تمكّن من إداء دوره بشكل أفضل وتوسيع مجالات تحركاته ومستوياتها أيضاً. المصدر :جنوبيات |