الجمعة 4 تشرين الثاني 2022 06:58 ص |
فاطمة البرناوي.. رائدة "الحركة النسوية الأسيرة" |
* جنوبيات تغمضُ المُناضلة اللواء الركن فاطمة محمد علي البرناوي عينيها عن (83 عاماً) حافلة بالآلام والنضال من أجل قضية فلسطين، التي أبصرت النور على أرضها في العام 1939. في كل المراحل التي مرّت بها، تركت بصماتٍ مُتعدّدة، فهي أوّل أسيرة تُسجّل في سجلات "الحركة النسوية الأسيرة" للثورة الفلسطينية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والثالثة في مسيرة الثورة، والأولى لحركة "فتح". يشاءُ القدر أنْ يكون رحيلها في القاهرة على مقربة من تاريخ إطلاق سراحها في تشرين الثاني/نوفمبر 1977، بعدما كانت قد أُسِرَتْ في سجون الاحتلال في 8 تشرين الأول/أکتوبر 1967، إثر مُحاولتها تنفيذ أوّل عملية فدائية لها في القدس، شاركتها فيها شقيقتها إحسان، التي رحلت في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2015 في العاصمة الأردنية - عمان.
وأيضاً على مقربة من الذكرى السنوية الـ18 لاستشهاد مَنْ أحبّت، الرئيس الرمز ياسر عرفات في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004 .
كما التقت بالكثير من المُناضلين، الذين كانت قد خَدَمَتْ معهم في صُفوف الثورة الفلسطينية، أو عرفتهم في مراحل مُتعدّدة من نضالها، فذَرَفَتْ دموع فرح اللقاء. كم هي الصدف تُفاجئنا مُشاركةً في اللقاء، المُناضلة الحاجّة آمنة حسن بنات "أم عزيز"، زوجة الشهيد ووالدة المخطوفين، التي حضرت وألقت كلمة مُؤثّرة، ورحلت بداية الأسبوع الجاري عن (91 عاماً). مرارة رحيل الحاجة فاطمة قاسية، على الرغم من أنّها كانت مشروع شهيد في العام 1967، عندما كلّفها "الدكتور محمد" تنفيذ عملية عسكرية بتفجير "سينما صهيون" في القدس، ولم يكن "الدكتور محمد" إلا الرئيس ياسر عرفات، الذي تنكّر واستطاع الوصول خفيةً إلى الضفّة الغربية، عبر نهر الأردن، بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، لإعادة تنظيم العمل الفدائي من هناك.
لكنّها، أُسِرَتْ مع شقيقتها إحسان، وكُتِبَتْ حياة جديدة للشقيقتين، فتابعتا الرسالة بتعميمها، فأمهلهما القدر سنواتٍ، تكرّست في النضال.
مسيرة الحاجة فاطمة، الصادقة، المُتواضعة، مليئة بالإخلاص والنضال، من أجل القضية التي آمنت بها.
العملية الأولى بتاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر 1967، انطلقت فاطمة وأختها إحسان لتنفيذ العملية، حيث وضعتا حقيبة مليئة بالمُتفجرات داخل "سينما صهيون"، التي كانت تعرض فيلماً عن الحرب، ثم ادّعت فاطمة بأنّ بطنها يُؤلمها، فسألت أحدهم عن صيدلية تكون قريبة من السينما، وبذلك تمكّنتا من الخروج دون أنْ يشعر بهما أحدٌ، لكن صحافياً أميركياً انتبه للحقيبة، فظنَّ أنَّ الفتاتين السمراوتين قد نسيتاها، فخرج خلفهما مُسرعاً، فما كان من جنود الاحتلال إلا أنْ نقلوا الحقيبة إلى خارج السينما، وقاموا بتفجيرها، وعندما سمعت الفتاتان دوي الانفجار، أخذتا تنشدان أغنية لأم كلثوم "راجعين بقوة السلاح.."، وبدأ جنود الاحتلال عملية البحث عن الفتاتين السمراوين، اللتين توغّلتا في حي باب المغاربة في القدس، الذي تقطنه الجالية الأفريقية، حيث ظن الجميع بأنّهما من الأفارقة، الذين يسكنون باب المغاربة في القدس، وبالتالي لم يكن البحث عنهما سهلاً، وهو ما ساعدهما على الإفلات من جنود الاحتلال.
وكان "أبو عمار" قد أرسل رسالةً إلى عائلة فاطمة من خلال شاب، وصل إلى البلدة وسأل المُختار عن العنوان، فأرشده إليه، وكانت الرسالة تطلب منهم "مغادرة المنزل قبل أنْ يصل الإسرائيليون إليهم"... لكن المُختار كان عميلاً للاحتلال، فوشى إليهم بأنّ شاباً غريباً عن المنطقة موجود في البلدة، وفي منزل محمد علي البرناوي، وحين وصل جنود الاحتلال إلى منزل عائلة فاطمة، كان الشاب لا يزال يشرب القهوة عندهم، فاعتقلته دورية الاحتلال، كما اعتقلت والديها، وأختها التي ادّعت بأنّها فاطمة، لتتيح لأختها المجال بالهرب، لكنّ الجنود ما لبثوا أنْ اكتشفوا الأمر، لكنّ إحسان، تمكّنت من الفرار إلى الأردن مع مجموعة علي طه، وهناك تزوّجت واستقرّت. قُدّمت فاطمة إلى المُحاكمة، وكذلك الشبان السبعة الذين نفّذوا سلسلة العمليات التي خطّط لها "أبو عمار"، وكان قد أوكل لها والدها مُحامياً فلسطينياً، بعدما كانت رفضت التعامل مع المُحامي الإسرائيلي، واعترفت بتنفيذها العملية، قائلةً: "إنّها عملية شرعية، دفاعاً عن وطني، لماذا أتنكّر لها؟!"، وحكم عليها بالسجن مُؤبدان و10 سنوات، بتهم حيازة أسلحة، والشروع في تنفيذ عملية تفجيرية، والانتماء لتنظيم غير شرعي. علقت فاطمة على الأحكام الصادرة بحقها، بالقول: "كان الهدف من هذه الأحكام، أنْ تخاف باقي البنات، ويُحْجِمْنَ عن المُشاركة في الأعمال النضالية، لكن حدث العكس، إذ تحرّرت المرأة الفلسطينية من قيود المُجتمع، وانطلقت باتجاه الثورة، فقد قامت بعدي المُناضلة عايدة سعد بتفجير دبابة إسرائيلية في قطاع غزّة، على الرغم من أنّها كانت في السابعة عشرة من عمرها"، وقد تصدرت صورة فاطمة غلاف مجلة "اللـواء". - أثناء وجود فاطمة في سجن "نيفي ترتسيا" كانت الأسيرة المُناضلة زكية شموط "أم مسعود"، في السجن، وعندما أتاها مخاض الولادة، وضعتها سجّانات الاحتلال في زنزانة انفرادية قبل أنْ يُغمى عليها بعد صراخها ، فعلا صراخ الأسيرات فاطمة، ومعها تريز هلسا، حنان مسيح، وناديا بردلي وغيرهن، مُطالبات بمعرفة ماذا جرى لزكية، التي تبيّن أنّها مطروحة أرضاً، وطفلتها ما زالت مُتعلقة بها، والدم يغمر المكان، فقامت (المُمرضة) فاطمة بقص الحبل السري، وكانت ولادة ناديا شموط، التي زوّجها خليل الوزير "أبو جهاد"، قبل استشهاده بأيام قليلة في نيسان/إبريل 1988 من المُناضل خالد أبو إصبع، أحد الناجين من "عملية الشهيدة دلال المُغربي".
- فاطمة الصادقة، والمُتواضعة، حرصت على عدم إنكار دور أي مُناضل، فأوضحت أنّها لم تكن الأسيرة الأولى في الثورة الفلسطينية، بل سبقتها مُناضلتان، هما إخلاص علي، أسيرة بتهمة تعليم أطفال فلسطين في الداخل الأناشيد الثورية، ونايفة عاقلة، التي كانت ناشطة مع "جماعة الأرض"، بعدما كانت قد أُسِرَتْ في العام 1956، بتُهمة تهريب معلومات عن الجيش الإسرائيلي إلى الجيش السوري.
في تلك اللحظة انقض عليه جنود الاحتلال، وأوسعوه ضرباً، وأعادوه وفاطمة كل إلى زنزانته، واستمروا بتعذيب عمر، الذي استشهد داخل السجن بتاريخ 4 حزيران/يونيو 1989، وأُطلِقَ عليه لقب "مانديلا فلسطين". - أُطلِق سراح الأسيرة فاطمة بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1977، قبل زيارة الرئيس المصري محمد أنور السادات إلى "الكنيست" الإسرائيلي، ثم لاحقاً توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" مع الكيان الإسرائيلي، والتي نصّت على إطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين، وإبعادهم إلى خارج الوطن، فكان من بينهم فاطمة، وهكذا أُطلق سراحها، لكنها أُبعدت إلى الأردن، ثم وصلت إلى لبنان، حيث التحقت في صفوف الثورة الفلسطينية، ولكن في المجال الاجتماعي وليس العسكري. - في إحدى المرّات التقت الأسيرة المُحررة فاطمة، بفدائية تُدعى دلال المغربي، وتتذكّر ما جرى معها بالقول: "حين نزلتُ بيروت، جاءت دلال لتتعرف عليّ، وكانت صغيرة في السن، قالت لي: "سأذهب إلى المكان الذي أتيت منه"... لم أتوقّع حينها أنّها فدائية، إلى أنْ سمعت نبأ استشهادها، فعرفت بأنّها الفتاة التي جاءت لتتعرّف عليّ، فكانت مُفاجأة كبيرة جداً". - تزوّجت فاطمة من المُناضل فوزي النمر، الذي أُطلِقَ سراحه أيضاً في صفقة التبادل التي كانت جزءاً منها، وكان من "مجموعة 800-877" (هي أوّل مجموعة فدائية في أراضي 1948، نفّذت عمليات ضد مصفاة النفط وأهداف إسرائيلية في قلب تل أبيب، رداً على المجزرة التي ارتكبتها القوات الجوية الإسرائيلية بقصف "مدرسة بحر البقر المُشتركة" في قرية بحر البقر بمركز الحسينية بمُحافظة الشرقية في مصر، وأدّت إلى استشهاد 30 طفلاً وإصابة 50 آخرين، بتاريخ 8 نيسان/إبريل 1970)، فأقبل فوزي وقبلها في جبينها، ثم وقع النصيب. - بعد عودة الكثير من المُناضلين الفلسطينيين إلى أرض الوطن في العام 1994، ومن بينهم فاطمة، طلب منها الرئيس "أبو عمار" منها تأسيس "جهاز الشرطة النسائية" الفلسطينية، ونجحت في ذلك رغم كل الظروف الصعبة، ومنها العادات والتقاليد، قبل دخول الطمأنينة والسكينة لقلوب الأهالي لتواجد المُناضلة فاطمة على رأس المُهمة.
المصدر :اللواء |