يُروى لدى العرب أنّ ﺭﺳّﺎمًا ﻋﺠﻮﺯًا كان يعيش ﻓﻲ ﻗﺮﻳﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ وادعة، ﻭﻳﺮﺳﻢ اللوﺣﺎﺕ بإتقان قل نظيرّه فكانت ﻏﺎﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ! فيبيعها ﺑﺴﻌﺮ ﺟﻴّﺪ وبإقبال لافت من المعجبين برسوماته المميّزة.
وﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﻣﻦ ﺍﻷﻳّﺎﻡ ﺃﺗﺎه أحد الفقراء ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻪ : "ﺃﻧﺖ ﺗﻜﺴﺐ ﻣﺎﻟًﺎ ﻛﺜﻴﺮًﺍ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻟﻚ، فلماذﺍ ﻻ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﺍﻟﻔﻘﺮﺍﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ؟!" وتابع بكلمة ملفتة بأبعادها قائلًا للرسّام البارع: أﻧﻈُﺮ إلى جزّار ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ الكثير من المال، ﻭﻣﻊ ﺫﻟﻚ ﻳﻮﺯّﻉ بشكل يوميّ ﻗﻄﻌًﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﺤﻢ (مجّانًا) على فقراء القرية. (وبابتسامة هادئة ارتسمت على محيّاه لم يردّ الرسّام العجوز عليه).
عندها ﺧﺮﺝ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﻣﻨﺰﻋﺠًﺎ ﻭأخذ يشيع ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ أﻥّ ﺍﻟﺮﺳّﺎﻡ ﺛﺮﻱّ ﻭﻟﻜﻨّﻪ ﺑﺨﻴﻞ. فنقم ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ وقاطعوه وامتنعوا عن زيارته.
ﺑﻌﺪ ﻣﺪّﺓ ﻣﺮﺽ ﺍﻟﺮﺳّﺎﻡ ﺍﻟﻌﺠﻮﺯ ﻭﻟﻢ ﻳﻌﺮه
ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ قريته أي اهتمام، ثمّ ﻣﺎﺕ ﻭﺣﻴﺪًﺍ، ودُفن ولم يحضر أحد عزاءه.
ﻣﺮّﺕ ﺍﻷﻳّﺎﻡ، وتوالت الأحداث، ﻭﻻﺣﻆ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ أنّ ﺍﻟﺠﺰّﺍﺭ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﺮﺳﻞ ﻟﻠﻔﻘﺮﺍﺀ ﻟﺤﻤًﺎ ﻣﺠّﺎﻧﻴًّﺎ. سألوه ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺒﺐ، فقاﻝ : "إﻥّ ﺍﻟﺮﺳّﺎﻡ ﺍﻟﻌﺠﻮﺯ هو ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ يعطيه ﻛﻞّ ﺷﻬﺮ ﻣﺒﻠﻐًﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﻝ لإﺭسال اللحم إلى الفقراء. ﻭلمّا ﻣﺎﺕ توقّفت تلك المعونة ﺑﻤﻮﺗﻪ.
وعليه، ﻗﺪ ﻳﺴﻲﺀ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﻚ ﺍﻟﻈﻦّ، ﻭﻗﺪ ﻳﻈﻨّﻚ ﺁﺧﺮﻭﻥ ﺃﻃﻬﺮ ﻣﻦ ﻣﺎﺀ ﺍﻟﻐﻤﺎﻡ. ﻭﻟﻦ ﻳﻨﻔﻌﻚ ﻫﺆﻻﺀ ﻭﻟﻦ ﻳﻀﺮّﻙ ﺃﻭﻟﺌﻚ، فالمهمّ هو ﺣﻘﻴﻘﺘﻚ ﻭﻣﺎ ﻳﻌﻠﻤﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻚ.
فلا ﺗﺤﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﻇﺎﻫﺮ ﻣﺎ ﺗﺮﺍه ﻣﻨﻪ، ﻓﻘﺪ تكون ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺃﻣﻮﺭ ﺃﺧﺮﻯ ﻟﻮ ﻋﻠﻤﺘﻬﺎ ﻟﺘﻐﻴّﺮ ﺣﻜﻤﻚ ﻋﻠﻴﻪ. ومن منطلق الحرص على ديمومة التعامل مع الآخرين، لا تتسرّع في الحكم عليهم كي لا تُخطىء بحقّ أي منهم "لجهلك خفايا الأمور! وقد صدق النبيّ العربيّ محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام حين قال:
"إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث".