يعاني الأحداث في السجون اللبنانية ظروفاً نفسيّة وجسديّة غير ملائمة؛ لا مباني مؤهلة ولا قضاة ذوي مؤهلات محددة ولا عسكريين مُدربين على التعامل معهم. وهم، في مراكز إيوائهم التي يُفترض أن تعيد تأهيلهم ليكونوا عناصر فاعلة في المجتمع، يتعرّضون للضرب والتعذيب والتحرّش الجنسي والترهيب… حتى أصبحت مباني الأحداث والمراكز التي تستقبلهم «ممرات» لـ«تأهيلهم» لمزيد من الانخراط في عالم الجريمة.
يقع مركز «مبادرة» في محيط مستشفى ضهر الباشق الحكومي، وقد أسسته وزارة العدل بالتعاون مع وزارة الداخلية ومكتب الأمم المتّحدة المعني بمكافحة المخدرات والجريمة (UNODC)، وهو يُعنى بتأهيل الفتيات المُخالفات للقانون واللواتي صدرت بحقهن مذكرات توقيف أو اتخذت محكمة الأحداث بحقهن تدابير تأديبيّة أو عقوبات مخفّضة.
«راح نص طفولتي»، هكذا تصف «نور» (اسم مستعار) حالها بعد أكثر من ثلاث سنوات أمضتها في مبنى المركز الذي خصّص الموقع الإلكتروني التابع لوزارة العدل أكثر من 7 صفحات للحديث عنه وعن «الحياة الوردية» التي يوفّرها للفتيات: العيش في ظروفٍ اجتماعيّة ونفسيّة آمنة، ومشاريع تأهيل وتدريب، وبرامج تعليم وإنتاج… يبدو هذا بعيداً كلّ البعد عن الحياة التي عاشتها «نور» وزميلاتها الموقوفات. يكفي أن تُعدّد المرّات التي حاولت فيها الانتحار لتبيّن المأساة التي كانت تعيشها في المركز الذي دخلته قبل أن تتجاوز الـ12 عاماً، بعدما هربت من منزل جدتها لوالدها وضُبطت وهي تتعاطى المخدّرات.
فجأة وجدت نفسها في مركزٍ غريب (يضمّ تسع فتيات في ثلاث غرف بإدارة المربّية م. ر) تتشارك غرفة واحدة مع ثلاث فتيات يكبرنها بسنوات. لم تفهم الفتاة الصغيرة لماذا كانت الفتيات الثلاث «يلتصق» بعضُهن ببعض ليلاً، ولماذا دعتها إحدى الموقوفات بتهمة الدعارة للاتصال بها حالما تخرج من المركز لتجد لها «شاباً جميلاً يهتم بها»، فيما عرضت موقوفة أخرى تعليمها «كار» سرقة السيارات؟. ولم تملك شيئاً أمام استقواء موقوفات أخريات عليها و«تشليحها» الثياب التي اشترتها لها والدتها من جهة، وأمام عقاب الحارسات اللواتي اتهمنها بممارسة العادة السرية لأنها تنام بملابسها الداخلية. معظم وقتها تمضيه جالسة على سريرها من دون أي حركة، و«سلوتها» الوحيدة هي الدقائق الطويلة التي تقضيها في المرحاض عندما يكون خالياً لاسترجاع قدرتها على الكلام وممارسة هوايتها بالغناء. عانت صدمةً نفسيّة وقلقاً مرضياً جعلاها غير قادرة على النوم، وقضت أياماً طويلة تحت الحرام الصوفي تبكي بحرقة، حتى أُحيلت إلى الطبيب النفسي الذي نصح بإعطائها دواء مضاداً للقلق لتتمكن من النوم. لم تفهم «نور» من الطبيب سوى كلمة واحدة: «دوا أعصاب» فرفضت تناوله. بعد سفر الطبيب وامتناع إدارة المركز عن متابعة حالتها النفسيّة مع طبيبٍ آخر، لم يجد المسؤولون حلاً لـ«عصيان» الأوامر سوى إحالتها إلى الغرفة الانفرادية التأديبية في سجن رومية. هناك، تم تقييدها بـ«الكلبشة» ورمى عليها العسكري مياهاً باردة وبدأ بضربها. في كل مرة يُطلب من «نور» الانتقال إلى الغرفة الانفراديّة التي تقع في الطابق نفسه، كانت تعرف أن عسكريي رومية سيقومون بضربها. ومع ذلك، فإنّ الرعب الأكبر بالنسبة إليها هو بقاؤها في غرفة مظلمة لمدة 3 أيّام، هي التي تخاف من العتمة. الرعب منعها من الشكوى إلى والدتها التي كانت تزورها أسبوعياً، وفي كل مرة تُلاحظ أن ابنتها «تحوّلت إلى جسدٍ بلا روح، بالكاد تتكلّم ومن دون أن تتمكّن من التعبير عمّا يجول في خاطرها».
رواية «نور» تتقاطع مع رواية زميلتها «سمر» (اسم مستعار) التي تؤكّد تعرّضها للتحرّش والضرب من قبل العسكريين. واقع كان أكبر من قدرة «نور» على تحمّله، ما دفعها إلى أكثر من محاولة انتحار بالتشطيب أو محاولة خنق نفسها بالثياب والحرام الصوفي، فكان عقابها الاحتجاز في الغرفة الانفرادية، في مركز يُفترض أن يوفّر للقاصرات رعاية نفسيّة وبيئة آمنة.
التأهيل مفقود
الوقت يمرّ بطيئاً جداً على القاصرات في مركز «مبادرة»: الكتب والدفاتر ممنوعة في مركزٍ يقول عنه موقع وزارة العدل إنّ «البرامج التربويّة أولوية (فيه) للقاصرات اللواتي لم تتسنّ لهن فرصة الحصول على ثقافة مدرسيّة مناسبة لعمرهنّ»، وإن «هذا البرنامج من مسؤولية مدير النشاطات الاجتماعية، وهو يتمحور على مستويين أو أكثر: تعليم الأميّات، رفع المستوى المدرسي، المعلوماتيّة».
لا تفقه «نور» أياً من العبارات التي يوردها الموقع، لكنّها تؤكد أن أياً من هذا غير موجود أصلاً في المركز، إذ إن برامج التأهيل محصورة، بحسب السجينات القاصرات، بجمعيّة تُجري دورات تدريبيّة على تعليم الخياطة والكروشيه يومي الإثنين والأربعاء، إضافة إلى جمعيّة الإرشاد والإصلاح التي كانت تعلّم السجينات الرسم يوم الخميس. بالنسبة إلى «نور»، التأهيل الوحيد الذي لحقها هو اكتسابها مهارة تنظيف المراحيض والغرفة الخاصة بها وبزميلاتها، ومشاهدة «مدام روزي» تطبخ لهن الملوخيّة كل يوم جمعة.
مبنى الأحداث
ما تعيشه القاصرات في مركز «مبادرة» يعانيه القُصّر الذكور الموجودون في أحد الأجنحة في مبنى الأحداث في سجن رومية. يتعدّى عدد هؤلاء الـ130، بينهم عدد كبير من السوريين، ويتوزّعون على أكثر من نظارة يضم كل منها نحو 20 سجيناً ينامون في غرفٍ تتضمّن أسرّة ومرحاضاً مشتركاً يتناوبون على تنظيفه.
يتعرّض هؤلاء، بحسب ما يؤكد بعضهم لـ«الأخبار»، للضرب والتعذيب. يتحدّث «سمير» (اسم مستعار) عن عسكريين «بلا رحمة ينتظرون أي خطأ لضربنا». ويوضح ابن الـ15 عاماً أنّ الخطأ «يعني وقوع أي شجار أو صراخ بين السجناء. سريعاً، يخرجنا الحراس من الغرف، ويطلبون منّا خلع ملابسنا ويرمون علينا مياهاً باردة، قبل أن ينهالوا علينا بالضرب بقساطل بلاستيكيّة».
«تَمْسَحت وما بقى تفرق معي»، يقول «رامي» (18 عاماً)، بعد أن قضى أكثر من عامين في جناح الأحداث، لافتاً إلى أن «صلاحية الضرب» لا تقتصر على العسكريين، بل تشمل أيضاً الشاويش، ويرافقها توجيه شتائم وإهانات ووصف السجناء الأحداث بـ«المخنثين».
وإذ ينفي من تحدّثت إليهم «الأخبار» أن يكونوا قد تعرّضوا لأي تحرّش جنسي من قبل عسكريين أو سجناء آخرين خصوصاً أنّهم مسجونون في مبنى منفصل عن غير الأحداث، يشيرون إلى أنّ التحرّش أو العلاقات الجنسيّة تحصل بالتراضي بين بعض الأحداث أنفسهم داخل الغرف. وعمّا إذا كانوا ينقلون هذه الوقائع إلى مندوبي جمعيات يزورونهم باستمرار لتقديم لمساعدات كالألبسة وأدوات التنظيف والتعقيم، يقول أحدهم: «حكي على الفاضي. سبق أن اشتكينا ولكنّهم لم يفعلوا شيئاً».
أما في ما يتعلق بالمهارات التي اكتسبوها عبر البرامج التأهيليّة التي يُفترض أنهم يتلقّونها، فيؤكد أكثر من حَدَث أن «ما نتعلمه من بعضنا هو فنون السرقة والنشل وأساليب تجارة المخدّرات»!
تدمع عينا «سمير» لدى سؤاله عما سيفعله بعد خروجه من رومية: «أهلي لا يهتمّون لأمري، لم أتلقَّ تعليماً ولم أكتسب مهنة. على الأرجح سأعود إلى الشارع ثم إلى السجن من جديد. هنا حياتي ومستقبلي». يتمنّى ابن الـ15 عاماً لو أنه اكتسب «مصلحة» ما في السجن «كي أجد عملاً عندما أخرج». ولأن ذلك لا يحدث، يعتبر كثيرون أنّ البقاء في السجن أفضل لهم.
والأفدح، أنّ معظم المسؤولين عن السجون يقرّون بأنّ جناح الأحداث يُعد الممر الأول للمخدّرات إلى السجن، إذ إنّ للقاصرين الحق في مقابلة أهلهم والمرشدات الاجتماعيات ومندوبات الأحداث وجهاً لوجه، وليس من خلف عازل. ويؤكد هؤلاء أن الكثير من المرشدات متورّطات في إدخال الحبوب المخدّرة… ما يحوّل جناح الأحداث إلى ممر، ليس للمخدرات فقط، بل إلى المباني الأخرى داخل السجن، إذ إن معظم نزلاء المباني الأخرى مرّوا بهذا الجناح حيث تعرّفوا إلى أسرار بعض «الكارات» ورؤوسها، قبل أن ينتهي الأمر بهم في مباني السجن الأخرى.
كيف يتعامل القضاء مع القاصرين؟
يتعامل القضاء اللبناني مع الأحداث وفقاً للقانون 422 الصادر عام 2002، والذي يستند إلى اتفاقيّة حقوق الطفل الصادرة (1989) التي دعت الدول إلى «تطوير قوانينها لتلبية حقوق الأحداث واحتياجاتهم ومنع تعرّضهم للخطر وتطوير قضاء الأحداث».
ورغم أنّ القانون لا يُعد الأحداث الذين يرتكبون الجرائم «مجرمين»، بل «مخالفين للقانون» وتصل العقوبة المشدّدة بحقهم إلى 15 سنة من دون تطبيق عقوبتي الإعدام أو المؤبد، إلا أن هناك ملاحظات كثيرة قدّمها قانونيون وقضاة عملوا في محاكم الأحداث لم تؤخذ في الاعتبار لتعديل القانون الذي سُنّ منذ أكثر من 20 عاماً.
المفارقة الأولى هي أنّ القضاء يُعد القاصرين بين 7 و18 عاماً مسؤولين جزائياً عن أعمالهم، وإن كان لا يتم تنفيذ عقوبة الحبس إلا في حال أتمّ القاصر عامه الـ12، ليكون لبنان من أكثر الدول تشدداً في هذا الموضوع مقارنةً مع دول المنطقة. فيما تتم إحالة القاصرين دون الـ12 الذين يُضبطون متسوّلين أو متشرّدين إلى مؤسسات رعائيّة.
كما أنّ الوعود منذ أكثر من 5 سنوات بإمكانيّة فصل القاصرين والقاصرات في مبنىً يلائم حاجاتهم النفسية والجسديّة لا تزال حبراً على ورق، بعد إرجاء افتتاح المبنى المخصّص لهم في الوروار لـ«أسباب لوجستيّة». وهذا ينطبق أيضاً على غياب مراكز التوقيف الاحتياطي المُخصّصة للقاصرين والقاصرات الذين يتم احتجازهم داخل النظارات وإن كانت قوى الأمن تؤكد فصلهم داخل غرفٍ.
يُضاف إلى ذلك، عدم وجود نيابة عامّة متخصّصة بالأحداث وعدم إخضاع مساعدي الضابطة العدلية لتدريب في التعامل مع القاصرين، باستثناء وجود قضاة منفردين (واحد في كل محافظة باستثناء بيروت حيث تم تعيين اثنين) للنظر في جنح القاصرين والغرفة الابتدائية المدنيّة الناظرة في قضايا جنايات الأحداث. علماً أنّه حتى هؤلاء القضاة غير مدرّبين على التعامل مع الأحداث ولا يتم اختيارهم بحسب معايير محدّدة، بل إن بعضهم يُعيّن بسبب رفض معظم القضاة تسلّم هذه المسؤولية، خصوصاً أن معهد الدروس القضائية لا يُسلّط الضوء على الأحداث بل يكتفي بمحاضرات قليلة لا تتعدى الـ6 عن هذه القضايا.
6 تدابير وعقوبة
حدّد القانون 422 إمكانية اجتهاد القاضي بالحكم على الأحداث عقوبة واحدة للقاصرين المخالفين وهي الحبس، إضافة إلى 6 تدابير مانعة للحريّة: اللوم، الوضع قيد الاختبار (تتبع في قضايا المخدّرات التي يقوم فيها المعنيون بإجراء فحوصات للتأكد من عدم التعاطي خلال فترة يحددها القضاء قد تصل إلى سنة)، الحرية المراقبة (مراقبة دائمة على الحدث في بيئته من قبل مندوبي الأحداث للتأكد من سلوكه الاجتماعي وقد تصل إلى 5 سنوات)، العمل للمنفعة العامة أو العمل تعويضاً للضحية (تحديد مدّة يقوم فيها المُخالف بالتطوّع في الخدمة العامّة كدار عجزة على سبيل المثال)، الإصلاح والتأديب (لا تُطبّق أصلاً لعدم وجود مراكز متخصّصة). ويتابع قضاة الأحداث التقارير الصادرة من الجمعيات المتخصّصة حول أوضاع الأحداث ليقوموا إما بتخفيض التدابير أو التشدّد بها.
وإلى هذه التدابير، يتم اتخاذ تدبير سادس وهو تأمين الحماية للقاصر عبر إبعاده عن بيئته باعتبارها بيئة غير صالحة (كوجود خطر على سلامته الشخصية أو صحته النفسية، أو نموّه الجسدي والعقلي…)، والبحث عن بيئة أُخرى انطلاقاً من العائلة، كإمكانية ترك الحضانة مع الأب مثلاً كما قررت المحكمة الشرعية وانتقاله للعيش مع والدته، أو انتقاله للعيش مع أحد أفراد أسرته (جدّه، جدّته، عمّه، عمّته…).
وفي حال عدم وجود بيئة صالحة داخل الأُسرة يتم نقل القاصر إلى مؤسسات رعائية وحتى إلى أسر بديلة تقوم بتقديم طلبات في قصور العدل يتم درسها من قبل القضاة وإجراء المقابلات مع العائلات، وفتح تحقيق في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن العام للتأكد من وضع الأُسرة، بالإضافة إلى زيارات منتظمة يقوم بها مندوبو الأحداث لمتابعة أحوال القاصرين (غالبيّتهم من الأطفال الحديثي الولادة من دون إمكانية الوصول إلى عائلاتهم البيولوجية). وفي حال ثبوت عدم تلقّي القاصر الرعاية اللازمة يقرر القضاء سحب القاصر من الأسرة البديلة لتأمين مكان آخر.
132 قاصراً
في آخر إحصاء صدر هذا الشهر، أشارت وزارة العدل إلى وجود 141 حدثاً (ذكور وإناث) في السجون اللبنانيّة، أكثر من نصفهم سوريون. وهم يتوزّعون بين 132 قاصراً (120 موقوفاً و10 محكومين ومحكومان في قضايا ينتظران أحكامهما في قضايا أُخرى) في جناح الأحداث في سجن رومية، و9 قاصرات (7 موقوفات ومحكومتان) في مركز «مبادرة».