هو ليس "جيل ما بعد أوسلو" كما يحلو للبعض أن يسمّيه، بل "جيل الألفية الثالثة" على وجه التحديد، الجيل الذي نشأ وترعرع بعيداً عن "هندسات" طوني بلير موفد الرباعية الدولية وممثلها في فلسطين، والجنرال كيت دايتون صاحب نظرية "الإنسان الفلسطيني الجديد" الذي أشرف على إعادة بناء وهيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهما الشخصيتان (البريطانية والأمريكية) اللتان تولتا هندسة المشهد الفلسطيني بعد الانتفاضة الثانية واستشهاد ياسر عرفات، وتمكنتا من إعادة صياغة جيل كامل من أبناء الضفة الغربية طيلة ما يقرب من خمسة عشر عاماً، حتى كدنا نخشى على الضفة من فقدانها القدرة على الغضب ثانية.
في شهادته أمام الكونغرس، عرّف الجنرال دايتون "الإنسان الفلسطيني الجديد" بصورة شديدة الاختصار ومفعمة بالدلالة: هو الجيل الذي يرى في حماس والجهاد وشهداء الأقصى عدواً، ويرى في إسرائيل حليفاً أو مشروع حليف..
هو الجيل الذي كبّله طوني بلير بمندرجات الاقتصاد الاستهلاكي والنظام المصرفي، حتى بات أبناؤه أسرى لوطأة "الكمبيالات" و"الشيكات المؤجّلة"، ومن كان في رقبته طوق منها لن يرمي الإسرائيلي بحجر، ولن يخرج في مقاومة سرطان الاستيطان الزاحف، الذي انتشر خلال هذه السنوات كالنبت الشيطاني. لقد أطلق توماس فريدمان على سياسات تلك الحقبة اسم "الفياضية"، نسبة إلى رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق سلام فيّاض، وكتب تحت هذا العنوان في "نيويورك تايمز" مبشراً بحقبة جديدة وجيل فلسطيني جديد..
لا يحمل هذا الجيل "ضغينة" للفصائل القائمة، وهو بأدواره يعوّض نقصاً ويملأ فراغاً.. الفصائل باتت عناوين معروفة للانتقام الإسرائيلي، أما هؤلاء، فكما نلاحظ في كثير من الحالات، ليست لديهم "سوابق" ولا "سجلات" أمنية أو جنائية..
يومها وصفنا "فياضية فريدمان" بأنها "بليرية" و"دايتونية" مقنعة ومبتذلة، وأن أصحابها وواضعيها سيشهدون أمارات موتها وانهزامها، في حيواتهم، وليس بعد وفاتهم.
جيل "الإنسان الفلسطيني الجديد" يناهز أواخر الثلاثينات ومطالع الأربعينات اليوم، أما الجيل الذي يخرج للاشتباك على الحواجز وفي مواجهة المستوطنات والبؤر الاستيطانية، ويشكل ظاهر "عرين الأسود" و"كتائب جنين وبلاطة"، وحملة السكاكين والمسدسات والحجارة وأبطال عمليات الدهس، إنما هم من أبناء العقدين الثاني والثالث من أعمارهم، إنهم جيل الألفية الثالثة، المتحرر من تعاليم كيت دايتون وطوني بلير..
جيل لم ينخرط بعد في الدورة الاقتصادية ولم تأسره منظومة المصارف ولا قروضها وأقساطها وكمبيالاتها.. جيل متحرر من قيود أوسلو وأوهامه ووعوده وفساده، بعد أن رأى تهاوي كل هذا المبنى رأي العين.. جيل تحرر من الحسابات والرايات الفصائلية، وامتشق بدلاً منها شعار "الوحدة في الميدان"، بعيداً عن خطوط الفصائل وخنادقها.
لا يحمل هذا الجيل "ضغينة" للفصائل القائمة، وهو بأدواره يعوّض نقصاً ويملأ فراغاً.. الفصائل باتت عناوين معروفة للانتقام الإسرائيلي، أما هؤلاء، فكما نلاحظ في كثير من الحالات، ليست لديهم "سوابق" ولا "سجلات" أمنية أو جنائية..
منفتحون على بعضهم البعض بمعزل عن حواجز السياسة والتنظيم والإيديولوجيات، وأبوابهم مشرعة لمن يدخلون ساحات العمل الوطني لأول مرة، دعم الفصائل لهم لا يصل إلى حد ارتهانهم لها، ولا يرقى إلى مستوى ادعائها بقيادتهم أو تحريكهم، هي جدلية خاصة تطورت في قصبة نابلس وجنين البلدة والمخيم، وامتدت وتمتد إلى قصبات ومخيمات أخرى، والأهم من كل هذا وذاك، أن لديها حاضنة شعبية واسعة ومتحمسة، ترفع نشطاءهم وشهداءهم إلى مستوى "الأيقونات".
هذا جيل يصعب على السلطة مواجهته، كما يصعب على إسرائيل سد ثغرات جدرانها الأمنية والاستيطانية في طريقه.. إنهم سمة مرحلة فلسطينية ونتاج حالة إبداع شعبية تلقائية وعفوية، وهم يخطّون اليوم ملامح مرحلة استراتيجية فلسطينية جديدة، أملتها المرحلة الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة المفروضة على شعب فلسطين، والتي من عناوينها وسماتها المميزة اشتداد العدوان وتكثيف الاستيطان وتفشي العنصرية وتفاقم الفاشية.
لكنه جيل ما زالت تنتظره رؤية أوضح وقيادة أكثر تنظيماً، وامتداد وتنسيق على المستوى الوطني، وصلات بين الداخل والخارج، وقدرات أعلى على مخاطبة مختلف الأطراف ذات الصلة، فالغطاء ينكشف اليوم عن إسرائيل، وكفاح الفلسطينيين يلقى قبولاً وتفهماً وتأييداً عربياً وعالمياً، أعمق من أي وقت مضى، ولن يطول الزمان قبل أن تتحول توجهات الرأي العام العالمي إلى مواقف وسياسات للحكومات والمنظمات الإقليمية والدولية.